وأذكر ضابطًا ـ على سبيل المثال ـ: أن يكون الاحتمال العقلي موافقًا للواقع المدروس في قضية من القضايا.
فمن أمثلة ما يخالف واقع القضية المدروسة بعض ما طُرِح في تخريج أثر أنس بن مالك، حيث قال: ((مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، قال: ونحن ورثناه)) وفي رواية عن قتادة قال: ((سألت أنس بن مالك رضي الله عنه من جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟
قال: أربعة؛ كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد)).
والأثران رواهما البخاري، وفيهما إشكال من جهة الحصر، ومن جهة الاختلاف في الرابع من جامعي القرآن هل هو أبي بن كعب، أو أبو الدرداء.
وقد خُرِّج قول أنس في هذا الحصر بأن المراد بالجمع الكتابة لا الحفظ.
وهذا التخريج لا يتوافق مع ما حصل من جمع القرآن في عهد أبي بكر، ثم عثمان، إذ لو كان ذلك التخريج صحيحًا لجاء لهذا الجمع الذي عندهم ذكر أثناء جمعه في هين العهدين. فهو مخالف لواقع كتابة المصحف فيما يبدو، والله أعلم.
ومن باب الاستطراد، وكون الشيء بالشيء يُذكر = أقول: إن دراسة مصطلحات السلف في العلوم مما يحتاج إلى عناية، ولا أدري هل بُحث هذا أم لا، ومن أمثلة هذه المصطلحات في علوم القرآن عند السلف مصطلح الجمع، ومصطلح القُّرَّاء الذي كانوا يطلقونه على الفقهاء منهم فيما يبدو، وهو محل بحث، عسى الله أن ييسر لأحد الإخوة في هذا الملتقى أن يبحثه.
وأعود إلى صلب الموضوع، فأقول:
إذا نظرت إلى علوم القرآن وسبرتها فإنه سيظهر لك ما يأتي:
أولاً: أنَّ جملة من مسائله نقلية لا مجال فيها للرأي، كنقل القراءات التي قُرِئَ بها، وأسباب النُّزول الصريحة، ومبهمات القرآن، وفضائل الآيات والسور.
فلا مجال للقول بأن حرف كذا يقرأ بكذا إلا بأثر، ولا مجال للحكم بأن سبب نزول الآية كذا إلا بالنقل، ولا مجال لتحديد أن المراد بالشجرة التي أكل منها آدم إلا بالنقل، ولا مجال للقول بفضل سورة من السور إلا بالنقل.
والمقصود هنا أن طريقة الوصول إلى هذه المعلومة من طريق النقل، ولا يقع فيها الاجتهاد، وليس المقصود هنا تحرير صحة المنقول، فهذا مجاله مجال آخر.
ثانيًا: أن جملة منها الأصل فيها نقلي، لكن إذا انعدم النقل قام القياس والاجتهاد المبني على النقلي؛ كعلم المكي والمدني.
قال السيوطي (ت: 911):» وقال الجعبري: لمعرفة المكي والمدني طريقان: سماعي، وقياسي.
فالسماعي: ما وصل إلينا نزوله بأحدهما.
والقياسي: كل سورة فيها: يا أيها الناس فقط، أو كلا، أو أولها حرف تَهَجٍّ سوى الزهراوين والرعد، أو فيها قصة آدم وإبليس سوى البقرة = فهي مكية.
وكل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم الخالية مكية.
وكل سورة فيها فريضة أو حَدٌّ فهي مدنية «(الإتقان 1: 48).
ثالثًا: وأن بعضًا من علومه مبني على الاجتهاد المحض؛ كعلم تناسب الآي والسور، وعلم إعجاز القرآن.
وإذا كان ذلك كذلك، فإن بعض المسائل العلمية في علوم القرآن قد تكون من باب الاجتهاد المستند إلى النصوص، أو إلى الواقع الذي المرتبط بالمسألة، أو إلى غيرها من القرائن التي يستند إليها المجتهد في بيان بعض مسائله وتحريرها.
ومن ثمَّ، فلا تثريب على من تكلم عن هذه المسائل التي تعتمد على الاستنباط والاستدلال ما دام كلامه مبنيًا على علم، كما هو الحال في غيره من العلوم التي يقع فيها الاجتهاد.
وقد يكون اختلاف في فهم المنقول، فيحمله بعضهم على معنى، ويحمله آخر على معنى، وهذا سائغ ومقبول من الاختلاف، وهو من باب اختلاف التنوع الذي يقع فيه الباحثون، فلا تثريب في ذلك، ولا يزال الاختلاف في هذه الأمة قائمًا، وهو محمود ما دام فيه سعة صدر وأفق، وتقبُّلٍ للقول الآخر في محالِّ الاجتهاد، وذلك الذي يثري العلم، ويزيد المتعلمين.
بل إن تقبل أقوال الآخرين المبنية على الاجتهاد من أول ما يحسن بطالب العلم تعلمه والتأدب به، وأن لا يكون مقلدًا لقول فلان؛ لأنه فلان، بل يكون متبعًا؛ أي متبصرًا بما قال، عارفًا به، قادرًا على الدفاع عنه، وعلى التعبير به.
¥