وإن من المؤسف والمحزن في آن واحد، أن نرى كثيراً ممن ترجم للإمام الصنعاني - رحمه الله – يُثبت هذه القصيدة زاعماً أن ذلك كان منه أول الأمر ثم رجع عنها بقصيدة أخرى مطلعها:
رجعت عن القول الذي قلت في النجدي ** قد صح لي عنه خلاف الذي عندي
وقد تمسك كثير من المبتدعة، وأصحاب الفرق الضالة بهذه القصيدة المكذوبة على الإمام الصنعاني للطعن في شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ودعوته.
ولا يشك من نظر في سيرة الإمام الصنعاني - رحمه الله تعالى - وما كان عليه من حسن معتقد وفقه صاف ودعوة صادقة أن مثل هذه القصيدة لا تصدر عنه، بل هو بريء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب عليه السلام.
فالصنعاني رحمه الله من أكابر علماء أهل السنة والجماعة، الداعين إلى نبذ التقليد، والعمل بالدليل، ومحاربة الشرك، ونشر التوحيد.
وهو القائل - كما في كتابه منحة الغفار -: " إن التمذهب منشأ فرقة المسلمين، وباب كل فتنة في الدنيا والدين، وهل مزق الصلوات المأمور بالاجتماع لها في بيت الله الحرام إلا تفرق المذاهب النابت عن غرس شجرة الالتزام، وهل سفكت الدماء وكفر المسلمون بعضهم بعضاً إلا بسبب التمذهب، فإن الله تعالى فرض على الخلق طاعته وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يوجب على الأمة طاعة واحد بعينه .. ".
قال صديق القنوجي رحمه الله: " وهو – أي الصنعاني – لا ينسب إلى مذهب، بل مذهبه الحديث .... ، بلغ رتبة الاجتهاد المطلق، ولم يقلد أحداً من أهل المذاهب ".
ولقد أصاب الصنعانيَ رحمه الله في سبيل ذلك أذى كبير، بل إنه أوذي أشد الإيذاء، وقد عانى رحمه الله تعالى بسبب دعوته، وهذا حال كل إمام يدعو إلى الاجتهاد ونبذ التعصب.
وكيف لا يصيبه ما أصابه وقد نشأ بين الزيدية، فلمّا تبين له عوار مذهبهم، وضلالهم، وكثرة مخالفتهم للكتاب والسنة لم يقف مكتوف الأيدي، بل صدح بالحق. قال الإمام الآلوسي: " وممن قيّضه الله لدرء مفاسد هذا المذهب (أي الزيدية) محمد بن إسماعيل الأمير، وكان من أكابر أهل السنة، ولم يألُ جهداً في الرد على الزيدية وهدم أركان مذهبهم أصولاً وفروعاً ".
وقال أيضاً: " خالف الزيدية في عشرات المسائل وترتب على ذلك أن أخرجوه من اليمن وخربوا داره وآذوه كل الإيذاء ".
فرحم الله الإمام الصنعاني رحمة واسعة، وحُق له ما قاله فيه الأئمة. قال الشوكاني - رحمه الله – (في ترجمة الصنعاني): " الإمام الكبير المجتهد المطلق، صاحب التصانيف، برع في جميع العلوم، وفاق الأقران، وتفرد برئاسة العلم في صنعاء، وتظهر بالاجتهاد، وعمل بالأدلة، ونفر عن التقليد وزيف ما لا دليل عليه من الآراء الفقهية ". البدر الطالع.
وقال عنه أيضاً: " وبالجملة فهو من الأئمة المجددين لمعالم الدين ".
وقال الآلوسي: " محمد بن إسماعيل الأمير مجدد القرن، ومجتهد ذلك العصر، وكان من أكابر أهل السنة " المسك الإذفر.
وكم كان العلامة محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله تعالى رحمة واسعة وطيب الله ثراه وقدس روحه - ينصحنا حين يُسأل عن أفضل ما يقرأ طالب العلم في الفقه فكان يرشدنا إلى سبل السلام للصنعاني.
ومن رام معرفة عقيدة الصنعاني فلينظر في كتابه: تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد، حيث لم يخرج فيه عن عقيدة السلف قيد أنملة، قال رحمه الله في مقدمته: " هذا تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد، وجب علي تأليفه، وتعين علي ترصيفه، لما رأيته وعلمته، من اتخاذ العباد الأنداد، وهو الاعتقاد في القبور، وفي الأحياء ممن يدعي العلم بالمغيبات والمكاشفات وهو من أهل الفجور ".
وبعد كل ذلك يتبين لنا بصورة جلية واضحة أنّ مثل هذه القصيدة المنسوبة إلى الإمام الصنعاني - رحمه الله - في ذم شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب لا أصل لها عن الإمام الصنعاني رحمه الله، وخير شاهد على ذلك ما كان عليه الصنعاني رحمه الله من سيرة مليئة بالتوحيد الخالص ونبذ الشرك، ولقد أنكر العلماء ما نسب إلى الإمام الصنعاني واستغربوه مع يقينهم أن مثل هذه القصيدة لا تخرج من إمام سلفي في حق إمام سلفي خرجا من مشكاة القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة وفهم السلف الصالح. وقد ألف الإمام سليمان بن سمحان في ذلك رسالة سماها: " تبرئة الشيخين
¥