((فإِنَّ الهَزْل بالرِّدَّة كفرٌ لا بما هَزَل به لكن بعين الهزل؛ لأَنَّ الهازل جادٌّ في نفس الهَزل مختارٌ راضٍ والهزل بكلمة الكفر استخفافٌ بالدِّين الحقِّ فصار مرتدَّاً بعينه لا بما هزل به إلاَّ أَنَّ أثرهما سواءٌ بخلاف المكره؛ لأَنَّه غير معتقدٍ لِعَيْن ما أُكْرِه عليه.
قوله: لا بما هَزَل به ((جواب عما يقال إنَّ مبنى الرِّدَّة على تبدُّل الاعتقاد ولم يوجد هاهنا لوجود الهزل فإنَّه ينافي الرضاء بالحكم فينبغي أَنْ لا يكون الهزلَ بالرِّدَّة كفراً كما في حال الإكراهِ والسُّكر فقال الهزل بالرِّدَّة كفرٌ لا بما هزل بهِ لكن بعين الهزل يعني أَنَّا لا نحكم بكفره باعتبار أَنَّه اعتقد ما هَزَل به من الكفر بل نحكم بكفره باعتبار أَنَّ نفس الهزل بالكفر كفر; لأَنَّ الهازل وإِنْ لم يكن راضياً بحكم ما هزل به لكونه هازلاً فيه فهو جادٌّ في نفس التكلُّم به مختار للسَّبب راضٍ به فإِنَّه إذا سبَّ النبيَّ عليه السلام هازلاً مثلاً أو دعا لله تعالى شريكاً هازلاً فهو راضٍ بالتكلُّم به مختارٌ لذلك وإنْ لم يكن معتقداً لما يدلُّ عليه كلامه والتكلُّم بمثل هذه الكلمة هازلاً استخفافٌ بالدِّين الحقِّ وهو كفرٌ قال الله تعالى:? قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ?فصار المتكلِّم بالكفرِ بطريق الهزل مرتدَّاً بعين الهزل لاستخفافه بالدِّين الحقِّ لا بما هزل به أي لا باعتقاد ما هزل به إلاَّ أَنَّ أثرهما أي أثرَ الهزل بالكفرِ وأثر ما هزل به سواءً في إزالة الإيمان وإثبات الكفر بخلاف المُكرَه على الكفر; لأَنَّه غير راضٍ بالسبب والحكم جميعاً بل يجريه على لسانه اضطراراً ودفعاً للشرِّ عن نفسه غيرُ معتقدٍ له أصلاً. ولا يقال إنَّ الهازل لا يعتقدُ الكفر أيضاً لأَنَّا نقول هو معتقدٌ للكفر; لأنَّ ممَّا يجب اعتقاده حرمةُ الاستخفاف بالدِّين وعدمِ الرِّضاء به ولماَّ رضي بالهزل معتقداً له كان كافراً كذا في بعض الشُّروح)) (1).
35. عبيد الله بن مسعود المحبوبي البخاريّ (الحنفيّ). ت:747هـ
قال في "التوضيح":
((الهزل بالرِّدَّة كفرٌ لأَنَّه استخفافٌ فيكون مرتَدَّاً بعينِ الهزلِ لا بما هزل به) أي ليس كفره بسبب ما هَزَل به وهو اعتقادُ معنى كلمة الكفر التي تكلَّم بها هازلاً فإنَّه غيُر معتقدٍ معناها، بل كفَّره بعين الهزل، فإنَّه استخفاف بالدِّين وهو كفرٌ نعوذُ بالله تعالى منه)) (2).
36. زين الدين عمر بن مظفر الوردي (الشافعي). ت:749هـ
قال في البهجة:" (بَابُ الرِّدَّةِ)
مُكَلَّفٍ بِفِعْلٍ أَوْ تَكَلُّمِ أَفْحَشُ كُفْرٍ ارْتِدَادُ مُسْلِمِ
وَبِاعْتِقَادٍ مِنْهُ،كَالإِلْقَاءِ مَحْضٍ عِنَادًا وَبِالاسْتِهْزَاءِ
وَسَجْدَةٍ لِكَوْكَبٍ وَصُورَةِ" (1) لِلْمُصْحَفِ الْعَزِيزِ فِي الْقَاذُورَةِ
37. الحافظ محمد بن أبي بكر ابن قيِّم الجوزيَّة. ت:751هـ
قال في "كتاب الصّلاة": ((وشعب الإيمان قسمان: قوليّة، وفعليّة، وكذلك شُعَبُ الكفر نوعان: قوليّة وفعليّة، ومن شعَبِ الإيمان القوليَّة: شعبةٌ يوجب زوالها زوالَ الإيمان فكذلك من شعبِهِ الفعليّة ما يوجب زوالَ الإيمان. وكذلك شعبُ الكفر القوليَّة والفعليَّة، فكما يكفر بالإتيان بكلمة الكفر اختياراً، وهي شعبة من شعب الكفر، فكذلك يكفر بفعل شعبةٍ من شُعبه كالسُّجود للصَّنم، والاستهانَة بالمصحفِ، فهذا أصل.
وها هنا أصلٌ آخرُ، وهو أنَّ حقيقة الإيمان مركَّبةٌ من قولٍ وعمل. والقول قسمان: قول القلب، وهو الاعتقاد، وقول اللسان، وهو التكلم بكلمة الإسلام. والعمل قسمان: عمل القلب، وهو نيَّته وإخلاصه، وعمل الجوارح، فإذا زالَت هذه الأربعة، زالَ الإيمانُ بكمالِه، وإذا زالَ تصديقُ القلب، لم تنفع بقيَّة الأجزاء، فإنَّ تصديقَ القلب شرطٌ في اعتقادها وكونها نافِعةً. وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصِّدق، فهذا موضعُ المعركة بين المرجئة وأهل السُّنة، فأهلُ السُّنة مجمعون على زوالِ الإيمان، وأَنَّه لا ينفع التَّصديق مع انتفاءِ عملِ القلب، وهو محبَّته وانقياده كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدقَ الرَّسول، بل ويقرُّون به سرّاً وجهراً ويقولون
¥