فاق النبيين في خَلق وفي خُلُق * * * ولم يدانوه في علم ولا كرم
وكلهم من رسول الله ملتمس * * * غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم
أي أن جميع الأنبياء السابقين قد نالوا والتمسوا من خاتم الأنبياء والرسل محمد -صلى الله عليه وسلم- فالسابق استفاد من اللاحق!
فتأمل ذلك وقارن بينه وبين مقالات زنادقة الصوفية كالحلاج القائل: إن للنبي نوراً أزلياً قديماً كان قبل أنه يوجد العالم، ومنه استمد كل علم وعرفان؛ حيث أمدّ الأنبياء السابقين عليه ..
وكذا مقالة ابن عربي الطائي أن كل نبي من لدن آدم إلى آخر نبي يأخذ من مشكاة خاتم النبيين [11].
3 - ثم قال:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم * * * واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم
يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب - رحمهم الله - منتقداً هذا البيت: ومن المعلوم أن أنواع الغلو كثيرة، والشرك بحر لا ساحل له، ولا ينحصر في قول النصارى؛ لأن الأمم أشركوا قبلهم بعبادة الأوثان وأهل الجاهلية كذلك، وليس فيهم من قال في إلهه ما قالت النصارى في المسيح - غالباً -: إنه الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة، بل كلهم معترفون أن آلهتهم ملك لله، لكن عبدوها معه لاعتقادهم أنها تشفع لهم أو تنفعهم فيحتج الجهلة المفتونون بهذه الأبيات على أن قوله في منظومته: دع ما ادعته النصارى في نبيهم مَخْلَصٌ من الغلو بهذا البيت، وهو قد فتح ببيته هذا باب الغلو والشرك لاعتقاده بجهله أن الغلو مقصور على هذه الأقوال الثلاثة [12].
لقد وقع البوصيري وأمثاله من الغلاة في لبس ومغالطة لمعنى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: لا تُطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله [13]، فزعموا أن الإطراء المنهي عنه في هذا الحديث هو الإطراء المماثل لإطراء النصارى ابن مريم وما عدا ذلك فهو سائغ مقبول، مع أن آخر الحديث يردّ قولهم؛ فإن قوله - عليه الصلاة والسلام -: إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله تقرير للوسطية تجاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهو عبد لا يُعبد، ورسول لا يُكذب، والمبالغة في مدحه تؤول إلى ما وقع فيه
النصارى من الغلو في عيسى - عليه السلام -، وبهذا يُعلم أن حرف الكاف في قوله -صلى الله عليه وسلم-: كما أطرت هي كاف التعليل، أي كما بالغت النصارى [14].
ويقول ابن الجوزي - في شرحه لهذا الحديث -: لا يلزم من النهي عن الشيء وقوعه؛ لأنَّا لا نعلم أحداً ادعى في نبينا ما ادعته النصارى في عيسى - عليه السلام - وإنما سبب النهي فيما لم يظهر ما وقع في حديث معاذ بن جبل لما استأذن في السجود له فامتنع ونهاه؛ فكأنه خشي أن يبالغ غيره بما هو فوق ذلك فبادر إلى النهي تأكيداً للأمر [15].
4 - وقال أيضاً:
لو ناسبت قدره آياته عِظماً * * * أحيا اسمه حين يُدعى دارس الرمم
يقول بعض شرّاح هذه القصيدة: لو ناسبت آياته ومعجزاته عظم قدره عند الله - تعالى - وكل قربه وزلفاه عنده لكان من جملة تلك الآيات أن يحيي الله العظام الرفات ببركة اسمه وحرمة ذكره [16].
يقول الشيخ محمود شكري الآلوسي منكراً هذا البيت: ولا يخفى ما في هذا الكلام من الغلو؛ فإن من جملة آياته -صلى الله عليه وسلم- القرآن العظيم الشأن؛ وكيف يحل لمسلم أن يقول: إن القرآن لا يناسب قدر النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل هو منحط عن قدره ثم إن اسم الله الأعظم وسائر أسمائه الحسنى إذا ذكرها الذاكر لها تحيي دارس الرمم؟ [17].
5 - وقال أيضا:
لا طيب يعدل ترباً ضم أعظمه * * * طوبى لمنتشق منه وملتثم
فقد جعل البوصيري التراب الذي دفنت فيه عظام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أطيب وأفضل مكان، وأن الجنة والدرجات العلا لمن استنشق هذا التراب أو قبَّله، وفي ذلك من الغلو والإفراط الذي يؤول إلى الشرك البواح، فضلاً عن الابتداع والإحداث في دين الله - تعالى -.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: واتفق الأئمة على أنه لا يمس قبر النبي - صلى الله عليه وسلم- ولا يقبله، وهذا كله محافظة على التوحيد [18].
6 - ثم قال:
أقسمتُ بالقمر المنشق إنّ له * * * من قلبه نسبةً مبرورة القسم
¥