، [وحقيقة ذلك أن الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب: محكم على الإطلاق، ومتشابه على الإطلاق، ومحكم من وجه متشابه من وجه. فالمتشابه في الجملة ثلاث أضرب: متشابه من جهة اللفظ فقط، ومتشابه من جهة المعنى فقط، ومتشابه من جهتها. والمتشابه من جهة اللفظ ضربان:
أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة، وذلك إما من جهة غرابته نحو: الأب (الأب: الكلأ، وقيل: الأب من المرعى للدواب، كالفاكهة للإنسان. انظر: اللسان (أب))، ويزفون (يزفون أي: يسرعون، وأصله من: زفيف النعامة، وهو ابتداء عدوها. انظر: اللسان (زف))؛ وإما من جهة مشاركة في اللفظ كاليد والعين.
والثاني يرجع إلى جملة الكلام المركب، وذلك ثلاثة أضرب:
ضرب لاختصار الكلام نحو:} وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء {[النساء/3].
وضرب لبسط الكلام نحو:} ليس كمثله شيء {[الشورى/11]، لأنه لو قيل: ليس مثله شيء كان أظهر للسامع.
وضرب لنظم الكلام نحو:} أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ... قيما {[الكهف/1 - 2]، تقديره: الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا، وقوله:} ولولا رجال مؤمنون {إلى قوله:} لو تزيلوا {(الآية:} ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم، ليدخل الله في رحمته من يشاء، لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما {سورة الفتح: آية 25). والمتشابه من جهة المعنى: أوصاف الله تعالى، وأوصاف يوم القيامة، فإن تلك الصفات لا تتصور لنا إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه، أو لم يكن من جنس ما نحسه. والمتشابه من جهة المعنى واللفظ جميعا خمسة أضرب:
الأول: من جهة الكمية كالعموم والخصوص نحو:} اقتلوا المشركين {[التوبة/ 5].
والثاني: من جهة الكيفية كالوجوب والندب، نحو:} فانكحوا ما طاب لكم من النساء {[النساء/3].
والثالث: من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ، نحو:} اتقوا الله حق تقاته {[آل عمران/102].
والرابع: من جهة المكان والأمور التي نزلت فيها، نحو:} وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها {[البقرة/189]، وقوله:} إنما النسيء زيادة في الكفر {[التوبة/37]، فإن من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه معرفة تفسير هذه الآية.
والخامس: من جهة الشروط التي بها يصح الفعل، أو يفسد كشروط الصلاة والنكاح. وهذه الجملة إذا تصورت علم أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم، نحو قول من قال: المتشابه} آلم {[البقرة /1]، وقول قتادة: المحكم: الناسخ، والمتشابه: المنسوخ: المحكم: ما أجمع على تأويله، والمتشابه: ما اختلف فيه. ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب: ضرب لا سبيل للوقوف عليه، كوقت الساعة، وخروج دابة الأرض، وكيفية الدابة ونحو ذلك. وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته، كالألفاظ الغريبة والأحكام الغلقة. وضرب متردد بين الأمرين يجوز أن يختص بمعرفة حقيقته بعض الراسخين في العلم، ويخفى على من دونهم، وهو الضرب المشار إليه بقوله عليه السلام في علي رضي الله عنه: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) (1)
وإذ عرفت هذه الجملة علم أن الوقف على قوله:} وما يعلم تأويله إلا الله {[آل عمران/7]، ووصله بقوله:} والراسخون في العلم {[آل عمران /7] جائز، وأن لكل واحد منهما وجها حسبما دل عليه التفصيل المتقدم]
. وقوله:} الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها {[الزمر/23]، فإنه يعني ما يشبه بعضه بعضا في الأحكام، والحكمة واستقامة النظم. وقوله:} ولكن شبه لهم {
أي: مثل لهم من حسبوه إياه، والشبه من الجواهر: ما يشبه لونه لون الذهب.
(1) قال المحقق (لم أجده، لكن جاء عن علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن لأقضي بينهم، فقلت: يا رسول الله لا علم لي بالقضاء، فضرب بيده على صدري، وقال: (اللهم اهد قلبه، وسدد لسانه). أخرجه النسائي في تهذيب خصائص علي بن أبي طالب ص 43، وهو ضعيف)، وقوله لابن عباس مثل ذلك (الحديث عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الخلاء، فوضعت له وضوءا، قال: (من وضع هذا)؟ فأخبر فقال: (اللهم فقهه في الدين). أخرجه البخاري في باب وضع الماء عند الخلاء 1/ 224.
¥