فكان هذا دليلا آخر على باطل هذا الفناء، و أنه لو كان كمالا، لكانوا هم أحق به، و لكان لهم منه ما لم يكن لغيرهم، و لكان أيضا لنبينا، كما كانوا في الإيمان، و الجهاد، و الصلاة، و الزكاة؛ و لهذا في ليلة المعارج لما عاين النبي ما لم يره أحد من المخلوقين، من آيات ربه الكبرى، لم يعرف له هذا الفناء، و لم يعرف صعقا أو غشيا وأصبح يخبرهم عن تفصيل ما رأى غير فان عن نفسه ولا عن شهوده. .
و لو كان هذا الفناء المزعوم أعلى مقامات العبادة و ذورة التوحيد لدلّ عليه النبي و الأنبياء من قبله.
فلقد دلّ الرسول أمته على كل خير علمه باتفاق أهل السنة و الجماعة، فإن لم يدل على هذا الفناء، علم يقينا دون تردّد أنه مما لا حاجة إليه، إلا أن يقول أحدهم: إن الرسول لم يخبر أمته بكل خير علمه لها كما هو قول طائفة من المتكلمين.
واعلم حينئذ أيها المسلم أن لازم قولنا محمد رسول الله، أن نعتقد جازمين دون أية ريبة، ألا عقيدة إلا عقيدته، و لا طريقه إلا طريقته، و لا شريعة إلا شريعته، و لا حقيقة إلا حقيقته، و اعلم أنه لا يصل أحد من الخلق إلى الله و إلى رضائه و كرامته، إلا بمتابعته باطنا وظاهرا في الأقوال و الأعمال الباطنة و الظاهرة سواء ما يسمى الأحكام أو الرقائق لا فرق في كل ذلك.
واعلم أن على كل أحد يدعي علما في الإسلام أو عمل، أن يوافق عمله كلام النبي، و إلا فإنه علم لا ينفع، فالنظر في القرآن و السنة و تدبر معانيهما هو الموجب للعلم، فإن طريق العلم لابد فيه من العلم النبوي، بحيث تكون معلوماتك مطابقة لما أخبر به الرسول، و إلا فإنك لا تنتفع بها مهما كانت، فلابد من شيئين اثنين: أن يوافق نظرك ما أخبر به الرسول، و أن يوافق عملك عمل الرسول.
فإن لم يقل البوطي أو غيره، هذا لازم قولنا: محمد رسول الله، قلنا له: أعد النظر في عقيدتك في النبوة؟
القسم الثالث من الفناء:
قلنا عن تلاشي إرادة ما سوى الله في قلب المسلم و حبّه و خوفه ورجائه بأنه فناء، لتبيان القصد المحمود من هذه الكلمة التي وردت في كلام بعض الأفاضل، لأن هذا التلاشي هو التوحيد الذي دلّ عليه القرآن و السنة و صاحبه يقظ في كامل قواه العقلية، لم يغب عقله و لا فقد تمييزه، و هو حالة موجودة في كل مسلم اتبع الرسول باطنا و ظاهرا، لا يطلب منه سلوك مقامات معينة، و لا اتباع طريق سوى طريق الله المستقيم التي هي الإسلام؛ فمن عمل بعمل الرسول، و انتهى عما انتهى عنه بإخلاص، و تعلق قلبه بربه، فعلم أنه هو النافع الضار، كان من أصحاب هذا التوحيد الذي يسميه بعض الأفاضل: فناء عن إرادة السوى.
أسباب وقوع الصوفية في الاتحاد و الحلول:
إن لوقوع بعض المتصوفة من جراء ما يسمى بمقام الفناء، في الاتحاد و الحلول، أسبابا عديدة و عوامل متنوعة.
فمما لا شك فيه، أن أول ما ظهر في الإسلام أواخر المئة الثانية، هو الاتحاد الموجود في كلام بعض المتصوفة الذين سبق ذكرهم، و لما جاء أتباعهم ممن خاض في الفلسفة، و خالط الرافضة القائلين بحلول الله في الإمام، تطورت عقيدة الاتحاد، لتصبح فيما بعد الحلول والوحدة.
و من فحص هذا الموضوع بدقة، و قابله بمقالات الرافضة و الباطنية الإسماعيلية و غيرهم، و مقامات الفلاسفة في نظرية الصدور؛ وجد تشابها كبيرا بين هذه الطوائف، و استنتج بأن الذي قاد الفلاسفة إلى القول بنظرية الصدور، هو نفسه الذي قاد الصوفية إلى القول بالاتحاد و وحدة الوجود؛ ذلك أن نظرية الفلاسفة و مباحثهم لا يتناول إلا الكليات التي يعتقدونها في أذهانهم و يثبتونها في الخارج، فأثبتوا إلها مطلقا (عقل كلي) صدر عنه العالم.
و هذا الذي قاد الصوفية إلى القول بوحدة الوجود، فالكلي عند الفلاسفة هو المطلق عند الصوفية.
¥