اضطرب الناس في مسألة التوسل، وحكمها في الدين اضطراباً كبيراً، واختلفوا فيها اختلافاً عظيماً، بين محلل ومحرم، ومغال ومتساهل، وقد اعتاد جمهور المسلمين منذ قرون طويلة أن يقولوا في دعائهم مثلاً: "اللهم بحق نبيك أو بجاهه أو بقدره عندك عافني واعف عني" و"اللهم إني أسألك بحق البيت الحرام أن تغفر لي" و"اللهم بجاه الأولياء والصالحين، ومثل فلان وفلان" أو "اللهم بكرامة رجال الله عندك، وبجاه من نحن في حضرته، وتحت مدده فرج الهم عنا وعن المهمومين"و"اللهم إنا قد بسطنا إليك أكف الضراعة، متوسلين إليك بصاحب الوسيلة والشفاعة أن تنصر الإسلام والمسلمين .. " الخ.
ويسمون هذا توسلاً، ويدَّعون أنه سائغ ومشروع، وأنه قد ورد فيه بعض الآيات والأحاديث التي تقره وتشرعه، بل تأمر به وتحض عليه، وبعضهم غلا في إباحة هذا حتى أجاز التوسل إلى الله تعالى ببعض مخلوقاته التي لم تبلغ من المكانة ما يؤهلها لرفعة الشأن، كقبور الأولياء، والحديد المبني على أضرحتهم، والتراب والحجارة والشجر القريبة منها، زاعمين أن ما جاور العظيم فهو عظيم، وأن إكرام الله لساكن القبر يتعدى إلى القبر نفسه حتى، يصح أن يكون وسيلة إلى الله، بل قد أجاز بعض المتأخرين الاستغاثة بغير الله!
فما هو التوسل يا ترى؟ وما هي أنواعه؟ وما معنى الآيات والأحاديث الواردة فيه؟ وما حكمه الصحيح في الإسلام؟
الفصل الأول:
التوسل في اللغة والقرآن
معنى التوسل في لغة العرب:
وقبل الخوض في هذا الموضوع بتفصيل، أحب أن ألفت النظر إلى سبب هام من أسباب سوء فهم كثير من الناس لمعنى التوسل، وتوسعهم فيه، وإدخالهم فيه ما ليس منه، وذلك هو عدم فهمهم لمعناه اللغوي، وعدم معرفتهم بدلالته الأصلية، ذلك أن لفظة (التوسل) لفظة عربية أصيلة، وردت في القرآن والسنة وكلام العرب من شعر ونثر، وقد عنى بها: التقرب إلى المطلوب، والتوصل إليه برغبة، قال ابن الأثير في "النهاية": (الواسل: الراغب، والوسيلة: القربة والواسطة، وما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به، وجمعها وسائل) وقال الفيروز أبادي في "القاموس": (وسل إلى الله تعالى توسيلاً: عمل عملاً تقرب به إليه كتوسل) وقال ابن فارس في "معجم المقاييس": (الوسيلة: الرغبة والطلب، يقال: وسل إذا رغب، والواسل: الراغب إلى الله عز وجل، وهو في قول لبيد:
أرى الناس لا يدرون ما قدْرُ أمرهم بلى، كل ذي دين إلى الله واسلُ).
وقال الراغب الأصفاني في "المفردات": (الوسيلة: التوصل إلى الشيء برغبة، وهي أخص من الوصيلة، لتضمنها لمعنى الرغبة، قال تعالى:} وابتغوا إليه الوسيلة {، وحقيقة الوسيلة إلى الله تعالى: مراعاة سبيله بالعمل والعبادة، وتحري مكارم الشريعة، وهي كالقربة، والواسل: الراغب إلى الله تعالى).
وقد نقل العلامة ابن جرير هذا المعنى أيضاً وأنشد عليه قول الشاعر:
إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا وعاد التصافي بيننا والوسائل
هذا وهناك معنى آخر للوسيلة هو المنزلة عند الملك، والدرجة والقربة، كما ورد في الحديث تسمية أعلى منزلة في الجنة بها، وذلك هو قوله r: p إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل
ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة i (1).
وواضح ان هذين المعنيين الأخيرين للوسيلة وثيقا الصلة بمعناها الأصلي، ولكنهما غير مرادين في بحثنا هذا.
معنى الوسيلة في القرآن:
إن ما قدمته من بيان معنى التوسل هو المعروف في اللغة، ولم يخالف فيه أحد، وبه فسر السلف الصالح وأئمة التفسير الآيتين الكريمتين اللتين وردت فيهما لفظة (الوسيلة)، وهما قوله تعالى:} يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدا في سبيله لعلكم تفلحون {
] المائدة: 35 [، وقوله سبحانه:} أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذوراً {] الإسراء: 57 [.
¥