ومكان الشاهد من هذا الكلام هو: ما حكم الذي يتلبّس بفعلٍ أحدثه الزنادقة؟ هل يكون متّبعاً للسنّة النبويّة؟ وهل يكون بفعله ذلك من أئمّة الهدى؟ أم يكون مبتدعاً جاهلاً!
والعجيب من الأخ حارث أنّه يتوسّع في هذه المسألة لدرجة أنه يريد أن يقنعنا بأنّ التغبير ليس مُحدثاً وأن الإمام أحمد كان غير جازم في حكمه عليه فمرّة قال عنه محدث ثم قال مكروه ثم رجع عن قوله الأول ثم فصّل القول فيه بل إنه قد سمعه واستحسنه!! ويستدلُّ الأخ حارث بروايةٍ مبدؤها التوزي ومنتهاها القطيعي ويقول عنها إنّ سندها صالح للاعتبار ولا يخرج عن حدّ الحسن! هكذا يقول!
ـ وأنا أسأله للاعتبار مع ماذا؟ مع الرواية التي ساقها السلمي أم مع الرواية التي ساقها ابن طاهر وكلاهما غير ثقة ولا مأمون!! والتوزي ضعيف والقطيعي ضعيف!!
أهذا هو الإسناد الذي تطالب به لحسم الأمور؟؟ أبإسنادٍ كهذا تقبل أنّ عبد الله ابن الإمام أحمد كان يُغافل أباه ويأتي بالمغني للبيت ليغني له مع نهي الإمام أحمد له عن سماعه؟ وبإسنادٍ كهذا تقبل أنّ الإمام أحمد كان يتسمّع للمغني الذي عند ولده ويعجبه بعد ذلك؟ وبهذا الإسناد تريد منّا أن نلغي كل ما ورد عن الإمام أحمد من ذمّه للتغبير وبأسانيد صحيحة كما روى أبو بكر الأثرم قال: سمعت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - يقول: " التغبير محدث " وقال أبو الحارث: سألت أبا عبد الله عن التغبير وقلت: إنه تَرِقُّ عليه القلوب. فقال: " هو بدعة " وروى غيره أنه كرهه، ونهى عن إسماعه. أهذا هو التحقيق عندك يا أخ حارث؟ وهذا هو الإسناد الذي تنادي به؟
إذا كنتَ تحسّن إسناداً كهذا، وهذه الطريقة غير مرضيّة، فعلى أقل تقدير لا يحلّ لك أن تدفع بهذا السند سنداً آخر صحيحاً لا غبار عليه!!
ـ عندما قلتُ إنّ القصّة التي رواها القاضي عياض عن مالك ـ في إنكاره على أولئك الذين يأكلون كثيراً ثمّ يغنون ثم يرقصون ويلطمون ـ هي قصّة مشهورة عن مالك ومستفيضة، وشهرتها تغني عن إسنادها. فذلك لأنه ليس فيها أي تكفير لأحد بعينه ولا بعمومه، بل فيها الإنكار على أمور لا يسعُ أحداً من العقلاء إلا إنكارها، فما بالك بالإمام مالك الذي ينكر ما هو أقل منها بكثير!!!!!!! وليس فيما صحَّ عن مالك أي شيء يعارضها!! ولم يردّها أحدٌ من العلماء المعتبرين من مذهب مالك أو غيره. وليس في نسبتها للإمام مالك أي جُرحة له أو انتقاص من قدره. ومع ذلك فقد رفضها الأخ حارث وصار يريد الكلام على التصحيف والتحريف والإسناد وغير ذلك وبتكلّفٍ شديد.
ولكنّه رضيَ أن ينسبَ للإمام أحمد ولابنه تلك القصّة الباردة المهلهلة الإسناد والتي فيها انتقاص لهما لأنّهما تلبّسا بأمرٍ ثبتَ أن الإمام الشافعي قال إنّ الزنادقة قد أحدثوه، فضلاً عن مخالفتها الصريحة لكل ما ورد عن الإمام أحمد بأسانيد صحيحة!! وفضلاً عن إنكار بعض أصحاب الإمام أحمد لها، واستشهادهم بأقواله المخالفة لها واعتمادهم عليها في الفتوى. والعجيب أنّ الأخ حارث لا يعجبه كلام الإمام المحدّث المحقق ابن الجوزي وهو من كبار شيوخ المذهب الحنبلي المتقدّمين؛ عندما يُثبت بعض الأقوال وينفي غيرها، لكنّه يحتجُّ عليَّ بالصّاوي ويقول إنّه أنكر القصّة التي رواها عياض عن مالك ويجعله في مقابلة عياض والشاطبي والونشريسي .... عجيبٌ حقاً، ومتى كان الصاوي ممن يُحتجُّ بهم؟ وكيف يقبل الأخ حارث كلامه مع أنّه حريصٌ على علم الإسناد والرجال؟
إنّ الصاوي يُنكر الحديث الصحيح إذا عارضَ مذهبه، بل يحكم بردّة من يعمل بغير المذاهب الأربعة ويحكم بكفر من يأخذ بظاهر الآيات والأحاديث! أيريد مني الأخ حارث أن ألتفتَ لأمثال الصاوي؟ في حين يرفضُ هو احتجاجي بالإمام الشاطبي!!!!!!!
مع أنّه قال لي في ردّه عليّ: "ومن قال للناس احتجوا في دينكم بما لم يثبت، إذا لم تثبت لكم الفتوى عن الصحابي أو تبين لكم ضعف نسبتها إليه فكيف تسندونها إليه؟ لا أخالفك في أنها تنسب، ولكن هل تكون تلك النسبة حجة لك في ترجيح قول أو النقل عن أصل مستقر ثابت الأصل استصحابه؟ انتهى
فهل نسي ما قاله أم هذا الكلام فقط يُلزِمُ به غيره؟!
¥