فمن المعلوم أنَّ رغبتهم في فهمه وتصور معانيه أعظم الرغبات؛ بل إذا سمع المتعلّم من العالم حديثاً فإنَّه يرغب في فهمه، فكيف بمن يسمعون كلام الله من المبلّغ عنه؟!، بل ومن المعلوم أنَّ رغبة الرسول ? في تعريفهم معاني القرآن أعظم من رغبته في تعريفهم حروفه، فإنَّ معرفة الحروف بدون المعاني لا تحصل المقصود؛ إذ اللفظ إنما يُراد للمعنى.
الوجه الثاني: إنَّ الله سبحانه وتعالى قد حضّهم على تدبّره وتعقّله واتباعه في غير موضع، كما قال تعالى: ? كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَبَّرُوا آيَاتِهِ ? ()، وقال تعالى: ? أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ? ()، وقال تعالى: ? أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَآءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الأَوَّلِينَ ? ()، وقال تعالى: ? أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيرا ? ().
فإذا كان قد حضّ الكفار والمنافقين على تدبّره، علم أنَّ معانيه مما يمكن الكفار والمنافقين فهمها ومعرفتها، فكيف لا يكون ذلك ممكناً للمؤمنين، وهذا يبيّن أنَّ معانيه كانت معروفة بيّنة لهم.
الوجه الثالث: أنَّه قال تعالى: ? إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ? ()، وقال تعالى: ? إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ? ()، فبيّن أنَّه أنزله عربيًّا؛ لأنْ يعقلوا، والعقل لا يكون إلاّ مع العلم بمعانيه.
الوجه الرابع: أنّه ذمّ من لا يفهمه فقال تعالى: ? وَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً ? ()، وقال تعالى: ? فَمَا لِهؤَلاَءِ القَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً? ()، فلو كان المؤمنون لا يفقهونه أيضاً لكانوا مشاركين للكفار والمنافقين فيما ذمّهم الله تعالى به.
الوجه الخامس: أنَّه ذمّ من لم يكن حظّه من السماع إلا سماع الصوت دون فهم المعنى واتباعه، فقال تعالى: ? وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ? ()، وقال تعالى: ? أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ? ()، وقال تعالى: ? وَمِنْهُمْ مَن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمُ واتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُم ? ()، وأمثال ذلك.
وهؤلاء المنافقون سمعوا صوت الرسول ? ولم يفهموا، وقالوا: ماذا قال آنفا؟، أي: الساعة، وهذا كلام من لم يفقه قوله، فقال تعالى: ? أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمُ واتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُم ?.
فمن جعل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان غير عالمين بمعاني القرآن، جعلهم بمنزلة الكفار والمنافقين فيما ذمّهم الله تعالى عليه.
الوجه السادس: أنَّ الصحابة -رضي الله- عنهم فسّروا للتابعين القرآن، كما قال مجاهد: ((عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره، أقف عند كلِّ آية وأسأله عنها)) ().
ولهذا قال سفيان الثوري: ((إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به)). وكان ابن مسعود يقول: ((لو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته)) (). وكلُّ واحد من أصحاب ابن مسعود وابن عباس نقل عنه من التفسير ما لا يحصيه إلا الله، والنقول بذلك عن الصحابة والتابعين ثابتة معروفة عند أهل العلم بها)) ().
ثانياً: قوله: ((والكيف غير معقول)) فإنَّ العقول لا يمكن لها أن تدرك كيفية صفات الباري -سبحانه-، وقد نصّ الله على ذلك في قوله تعالى: ? يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ? ().
¥