ولم يكن في عصر شيخ الإسلام من المخالفين من يجرؤ على تكفير أئمة الدين أو تبديعهم، كالإمام مالك وطبقته والشافعي وطبقته وأحمد وطبقته ونحوهم، بل كان المخالفون يظهرون تعظيم هؤلاء الأئمة قولاً باللسان فقط، وأما في الحقيقة فقد كانوا أشد الناس لهم تسفيهاً وتجهيلاً، وكانوا لأئمتهم وشيوخهم المتكلمين معظمين وعلى أقوالهم ومذاهبهم معوَّلين.
فلما نصر شيخ الإسلام كلام السلف الماضين، وفنَّد شبه المتكلمين ونقض مذاهبهم، وكشف زيفها وعوارها، ناصبه المقلدون العداء، ووشوا به لدى الأمراء، وسُجن شيخ الإسلام مرات وأوذي في الله من أجل نصرته لمسائل الاعتقاد وبخاصة الصفات.
والكلام عن هذا العَلَم الشامخ من أعلام المسلمين، وعن فقهه وعلمه وجهاده وزهده وأخلاقه ... الخ، مما لا تحتمله هذه الورقات، ولا تفي بحقه مئات الصفحات، ومن أنصف علم أن عامة من يُعْتَد به من العلماء من عصر شيخ الإسلام إلى يومنا هذا، عيال على كتبه ورسائله وفتاواه في عامة أبواب الدين وعلومه، خاصة مسائل الاعتقاد والرد على شبهات الفرق المخالفة.
•وليس هذا المخالف، الذي يدعي الحذلقة والفهم في أمور الاعتقاد ومسائل الصفات، بِبِدْع ممن سبقه، لكنه أتى ببعض الغرائب، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: إنكاره أن تكون هناك فرقة من الفرق المخالفة تسمى بالجهمية.
ولما تلي عليه كلام الترمذي وابن عبد البر، بل وكلام أبي منصور البغدادي صاحب كتاب "الفَرْق بين الفِرَق"، وهو من أئمة المتكلمين، كذَّب الجميع بطريقة فجة سمجة، فزعم أنها زلة عالم، وهذه حيلة منه يريد أن يتوصل بها إلى التكذيب، لأن هذا خبر محض، وردُّه تكذيب لقائله، كما لا يخفى. ثم هو لم يأت بأي بينةٍ من قول من يُعتد به، بل اكتفى بالنفي، فأين التحقيق العلمي؟!
ومعلوم أن هذا التكذيب يسري على كل من أثبت وجود هذه الفرقة من العلماء، ومنهم أئمة السلف، الذين صرحوا بوجود فرقة " الجهمية "، ومن ثم تجد في كتب السنة المشهورة أبواب مفردة في الرد على الجهمية، كما في سنن أبي داود، باب في "الجهمية". وفي سنن ابن ماجه: باب: فيما أنكرت الجهمية. وذكر الحافظ في الفتح في شرح كتاب "التوحيد" من صحيح البخاري أن في بعض النسخ: كتاب "الرد على الجهمية وغيرهم". وأنا أسوق بعض كلامه في الفتح [13/ 344] قال: ((وزاد المستملي "الرد على الجهمية وغيرهم". ووقع لابن بطال وابن التين "كتاب رد الجهمية")) إلى أن قال: ((وظاهره مُعتَرَض، لأن الجهمية وغيرهم من المبتدعة لم يردوا التوحيد وإنما اختلفوا في تفسيره، وحجج الباب ظاهرة في ذلك. و المراد بقوله في رواية المستملي "وغيرهم": القدرية .. )).
ثم ذكر الحافظ "المعتزلة"، ثم قال ((وهم في النفي موافقون للجهمية، وأما أهل السنة ففسروا التوحيد بنفي التشبيه والتعطيل)) إلى أن قال ((وأما الجهمية فلم يختلف أحد ممن صنف في المقالات أنهم ينفون الصفات حتى نُسِبوا إلى التعطيل، وثبت عن أبي حنيفة أنه قال: بالغ جهم في نفي التشبيه حتى قال إن الله ليس بشيء.
وقال الكرماني: "الجهمية" فرقة من المبتدعة ينتسبون إلى جهم بن صفوان مُقدَّم الطائفة القائلة أن لا قدرة للعبد أصلاً)) إلى أن قال الحافظ ((وليس الذي أنكروه على "الجهمية" مذهب الجبر خاصة، وإنما الذي أطبق السلف على ذمهم بسببه إنكار الصفات، حتى قالوا: إن القرآن ليس كلام الله وأنه مخلوق. وقد ذكر الأستاذ أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي في كتابه "الفرق بين الفرق" أن رءوس المبتدعة أربعة، إلى أن قال: والجهمية أتباع جهم بن صفوان .. )). انتهى نقله من فتح الباري باختصار.
وفي مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري ((الذي ينتسب إلى مذهبه المخالف)) ما نصه "ذكر قول الجهمية". انظر [1/ 338].
والمقصود: أن المخالف شذ عن سائر أهل العلم، حتى الأشاعرة، بإنكاره وجود فرقة تسمى"الجهمية"، وليست هذه بأشنع بلاياه وطاماته، فقد أنكر صفات الخالق، وصرح بالقول بخلق القرآن .. إلى آخر ما نطق به، وأبان به عن جهله وسفهه وفساد عقيدته.
ـ[محمد الثقفي]ــــــــ[04 - 03 - 04, 11:31 ص]ـ
المسألة الثانية
¥