•فهذا إمامهم ومقدَّمهم، أبو الحسن الأشعري، ظل زمناً طويلاً على مذهب المعتزلة ينافح عنه، ثم انتقل عنه إلى مذهب ابن كُلاَّب وناظر المعتزلة، ثم استقر أخيراً على مذهب قريب من مذهب السلف، كما صرح بذلك في آخر مصنفاته في "الإبانة" و"الموجز" و"المقالات".
وأكثر المخالفين ينكر رجوع أبي الحسن الأشعري ويكذب به، ويزعمون أن كتاب " الإبانة" وغيره منسوب إليه، وأن السلفيين يتقولون عليه.
والرد على هؤلاء سهل يسير، فأسوق لهم كلام السبكي، وهو من كبار الأشاعرة، حيث قال في طبقات الشافعية في ترجمة أبي الحسن الأشعري [3/ 405] ((وما نقموا من الأشعري إلا أنه قال بإثبات القدر لله، خيره وشره ونفعه وضره، وإثبات صفات الجلال لله، من قدرته وعلمه وإرادته وحياته وبقائه وسمعه وبصره وكلامه ووجهه ويده، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق ... )) الخ. وقال في [3/ 417] ((ومذهبه أن الله تعالى أفرد موسى في وقته بأن أسمعه كلام نفسه بغير واسطة ولا على لسان رسول)).
قال سمير: وقد اشتهركذلك رجوع الجويني والرازي والشهرستاني في آخر حياتهم، وانظر إن شئت كلام الحافظ في الفتح [13/ 350] وسير الذهبي [18/ 468] و [20/ 286] و [21/ 500].
المسألة الرابعة
يظن بعض طلبة العلم السلفيين أن معرفة عقيدة السلف تدرك بقراءة المختصرات المشهورة، كالواسطية والطحاوية ونحوها، وأن حفظها أو فهمها يكفيه ويغنيه عن قراءة غيرها. وهذا غير صحيح، إذ ليس في هذه المختصرات إلا القواعد العامة والأصول الجامعة لمسائل الاعتقاد، وقد ساق الإمام اللالكائي نصوصاً جامعة لبعض مشاهير الأئمة السابقين، كالإمام أحمد والبخاري وابن جرير الطبري وغيرهم، وليس فيها إلا الأصول التي خالف فيها المتكلمون، في القدر والصفات والصحابة ونحو ذلك، أما العقيدة نفسها فهي النصوص المروية في القرآن والسنة والآثار. فعقيدة السلف مبناها على الرواية، لأنها عقيدة الإثبات.
وهناك مصنفات كثيرة مفردة في ذكر نصوص الاعتقاد، سوى المصنفات الجامعة للسنن، فينبغي لمن أراد معرفة مذهب السلف إدامة النظر في تلك المرويات، ودراسة تلك المصنفات.
المسألة الخامسة
لما كانت عقيدة السلف معتمدة على النصوص والروايات، وهي مروية بالأسانيد، كما في عامة كتب "السنة" و "الرد على الجهمية"، فإن على طالب العلم – السلفي- أن يتعرف على طريقة علماء الحديث في قبول الروايات وردها، هذا إن أراد الاستقلال بالحكم على الأسانيد والروايات، كما يفعل بعض الباحثين في الجامعات وغيرها، أو يتابع من يثق في علمه وفهمه في معرفة المقبول والمردود من الروايات، حذراً من قبول المنكر والمردود، أو رد الصحيح المقبول.
•وليعلم أن الأصل في هذه المصنفات، وبخاصة المشهور منها، هو الصحة والقبول، إذ لا يعقل أن يحتج الأئمة في تقرير الصفات وإثباتها، والرد على مخالفيهم، بروايات ضعيفة أو منكرة، فإن هذا قد يرد في الكتب المصنفة لجمع الأحاديث، كالمسانيد والمعاجم ونحوها، أما مصنفات العقيدة فيبعد هذا، خاصة إذا تكرر إيرادها في أكثر من كتاب، فكيف إذا صرحوا بصحتها وأنكروا على من ردها وتأولها؟
هذا من حيث العموم والإجمال، إلا أنه قد يرد فيها ما لا يصح ولا يقبل، وهو مما قد ينفرد به مصنف، ولا يتابع عليه، أو مما قد نص على ضعفه ونكارته الأئمة، وهذا قليل ونادر في أمهات كتب "السنة" المشهورة، كالسنة للإمام أحمد وابنه واللالكائي و "التوحيد" لابن خزيمة، و "الرد على الجهمية" للدارمي ونحوها.
•ومسألة الحكم على الروايات ونقدها من المسائل الكبار، وقد خلط فيها كثير من طلبة العلم واستسهلوها، إذ ظنوا أنه يكفيهم قراءة شيء من كتب المصطلح وتراجم الرواة وشيء من الدربة في البحث والتخريج، في تحصيل القدرة على نقد الأسانيد والروايات، وهذه بلية من بلايا العصر.
وتفصيل الكلام على هذه المسألة يطول جداً، وستراه إن شاء الله مفصلاً في كتاب لاحق، رددت فيه على بعض الفضلاء في تعليقاتهم ونقدهم لكتب "السنة"، بنحو ما بينته من قبل في كتاب "بيان الوهم والإيهام".
المسألة السادسة
¥