تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ونحن نرى أن المخلوقات أحيانا تتشابه في إطلاق الأسماء والصفات عليها، وتختلف الكيفيات اختلافا كليا، فمثلا نطلق صفة اليد على يد البعوضة، ويد الفيل، ويد الباب، ويد الإنسان، بينما الكيفيات تختلف اختلافا عظيما، مع أن الاسم الذي فهم منه الصفة، اسم واحد، فإذا كان هذا الاختلاف بين المخلوقات، فكيف بالاختلاف بين الخالق والمخلوق، ولهذا فنحن نؤمن باتصاف الله تعالى بصفة اليد كما ورد في القرآن والسنة، ولكن نجهل كيفيتها، ولا نمثلها بأيدينا، تعالى الله عن ذلك.

الحقيقة الخامسة:

أن الوحي الإلهي لا يتضمن ما يحكم العقل باستحالته، ونعني بذلك العقل السليم الذي يفهم الاستدلال الصحيح، والبراهين السليمة، وينقاد للحق، وليس عقل المستكبر، فإنه عقل فاسد أعماه العناد.

غير أن الوحي الإلهي قد يتضمن أحيانا ما يحتار فيه العقل، لان في الوحي الإلهي حديث عن الغيب، والإنسان يتحير فيما غاب عن عقله، ولكنه ليس بالضرورة يحكم باستحالة وقوعه، فثمة فرق بين الإيمان بالشيء مع تحير العقل فيه، والحكم بالاستحالة، ومن الأمثلة على هذه الحقيقة أعني الفرق بين الحيرة والحكم بالاستحالة، أنك لو حدثت شخصا قبل مائتي عام مثلا، أن الإنسان سيمكنه فيما يأتي من الزمان، أن يتحدث مع شخص آخر ويراه وبينهما آلاف الأميال، بحيث أن أحدهما في جوف الليل، والآخر في وضح النهار، لاحتار عقله في الإيمان بهذا، وربما أداه ذلك إلى التكذيب، بينما لو عرضه مرة أخرى على عقله وبحث عن دليل صحيح يحكم بامتناع وقوع ذلك، لحكم بأنه غير مستحيل الوقوع البتة، وها نحن نراه واقعا اليوم.

فكذلك نحن قد نؤمن ببعض صفات الله تعالى إيمانا لا يتطرق إليه ريب، غير أن عقولنا تبقى متحيرة في كيفيتها، كإيماننا بعلم الله تعالى العظيم المحيط بكل الكليات والجزيئات التفصيلية الدقيقة في الحياة التي هي غير متناهية، كما قال تعالى {ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين}، ومعلوم أن تساقط الأوراق متجدد باستمرار وكذلك، حبوب الزروع المختفية في باطن الأرض، وما تحمله من أرزاق، وكل ما يقع في البر والبحر، كل ذلك يتحير العقل البشري في إمكان أن يدركه مدرك في كل لحظة، ولا يفوته منه شيء البتة، قد أحاط علمه بكل ذلك على التفصيل حتى جريان الإلكترونات حول نوات الذرات، في كل الأرض والسموات، هذا كله يتحير فيه عقل المؤمن، وتصيبه هذه الحيرة بالدهشة والشعور الغامر بعظمة الخالق، ولكن مع ذلك هو مؤمن مصدق مطمئن قلبه بان ذلك حق، وقس على هذا المثال إيمان المؤمن بكل صفات الله تعالى العلية.

وإذا تبينت هذه الحقائق الخمس، فالجواب على سؤال السائل أن نقول:

إن حديث النزول الإلهي في الثلث الأخير من الليل، ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق كثيرة مستفيضة، واتفق العلماء على صحته، والإيمان به واجب، ومعارضة ما دل عليه من معنى حق، بعقولنا القاصرة، يخالف ما أمرنا به من الإيمان، والتسليم التام بكل جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

وأما قول القائل أن الحديث يقتضي حدوث النزول الإلهي في كل لحظة، لان ما من لحظة إلا ويكون في بعض الأرض ثلث أخير من الليل، فالجواب أن هذا الفهم إنما سبق إلى عقل المعترض، بسبب ظنه أن النزول الإلهي كنزول البشر، يجري عليه ما يجري على حركات البشر من الخضوع لظرف الزمان، والانتقال من مكان إلى المكان، فسبق إلى ذهنه تمثيل الله تعالى بخلقه، فأدى ذلك إلى استشكال معنى الحديث، ولو أنه علم أن كل صفات الله تعالى، لا يماثله فيها سبحانه شيء من خلقه، ولا يجري عليها ما يجري على صفات المخلوقين من الأحكام واللوازم، لو استحضر هذا العلم في قلبه عند قراء ة أو سماع الحديث كما فعل الصحابة رضي الله عنهم ولهذا لم يثيروا هذا التساؤل لما استشكل معنى الحديث، ولفهمه على أن النزول الإلهي، ليس كنزولنا نحن، ولا يلزم عليه ما يلزم من حركاتنا وأفعالنا البشرية، بل هو أمر آخر خفيت علينا كيفيته، كما خفيت علينا كيفية سائر صفاته من السمع والبصر و العلم والحياة والإرادة والمحبة والغضب والرحمة والاستواء على عرشه ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير