فإن هذا القائل على هذه الصفة ليس قائلا بمجرد رأيه " (1).
وهنا تبدو المنهجية العلمية واضحة جلية، ويتضح أن تفسير القرآن الكريم ليس عملا هينا، بل هو عمل علمي جبار يحتاج إلى دراية، وخبرة وتمرس، فضلا عما يحتاجه المفسر من ملكات مبدعة وقدرات فذة، تمكنه من التفاعل مع الخطاب القرآني والتجاوب معه، مما يفتح الباب أمامه للكشف عن بعض حقائق الذكر الحكيم.
ثانيا: مرتكزات التفريق بين نوعي التأويل عند الإمام الطبري (ت310هـ):
والإمام الطبري يحصر الأسباب التي تجعل التأويل مردودا في أسباب نصية داخلية، ذلك أن من النصوص ما لا يدرك علمها إلا ببيان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهذه النصوص يتعين التوقف عندها، ولا يقال فيها أبدا، لأن ذلك مجازفة علمية خطيرة، قد تفضي إلى تشويش العقيدة الإسلامية، وتحريف الشريعة وإدخال البدع والضلالات، وبالتالي إحلال الفرقة والخلاف بين المسلمين، ومن ثم نص الطبري في تفسيره على أن: " ما كان من تأويل أي القرآن الذي لا يدرك علمه إلا بنص بيان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أو بنصية الدلالة عليه، فغير جائز لأحد القيل فيه برأيه، بل القائل في ذلك برأيه ـ وإن أصاب الحق فيه ـ فمخطئ فيما كان من فعله بقيله فيه برأيه، لأن إصابته ليست إصابة موقن أنه محق، وإنما هو إصابة خارص وظان، والقائل في دين الله بالظن، قائل على الله ما لم يعلم، وقد حرم الله جل ثناؤه ذلك في كتابه على عباده، فقال: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن. والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا. وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} (1).
فالقائل في تأويل كتاب الله الذي لا يدرك علمه إلا ببيان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي جعل الله إليه بيانه، قائل بما لا يعلم، وإن وافق قيله ذلك في تاويله ما أراد الله به من معناه، لأن القائل فيه بغير علم، قائل على الله ما لا علم له به " (2).
وهذا النص يفصح عن عقلية منضبطة بمنطق علمي، وبمنهج ثابت الأصول والقواعد، قرره الكتاب والسنة، وأكدته أعمال وأبحاث السلف الصالح الذين كانوا يتورعون عن الخوض في ما لا علم لهم به، حتى أثرت عنهم كلمة "لا أدري" في كثير من القضايا والأمور التي استفتوا فيها، بل جعلوا "لا أدري" قاعدة ثابتة من قواعد المنهج الإسلامي في البحث، فأثر عن الإمام مالك-رحمه الله- قوله: "العلم آية محكمة،
أو سنة مبينة ثابتة، أو: لا أدري" (3).
وليس في هذا حجر على العقول كما يزعم البعض، بل هو السبيل الأمثل للتوظيف الصحيح لكل الطاقات العقلية والفكرية والوجدانية التي حبانا الله بها، وهو التجرد للعلم وللحقيقة بحيث لا يكون الهوى أو الانتصار للمذهب هو الذي يتحكم ويرسم طريق البحث وتحصيل العلم والمعرفة. ومن هنا "دخل الإلتزام بكلمة "والله أعلم". يثبتها علماء الإسلام بعد الذي يقدمون أو يدونون من علم، وتلقانا "والله اعلم" في تراث السلف الصالح، فيتندر بها من لا يدرون أنها من تحرج العلماء، ولعلها التي تحمي الامة من جرأة من يجسر على ادعاء العلم بكل شيء، وما خشي نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على الدين إلا من آفته (آفة الدين ثلاث: فقيه فاجر، وإمام جائر، ومجتهد جاهل) (1) " (2).
ثالثا: مرتكزات التفريق بين نوعي التأويل عند الإمام الغزالي (ت 505هـ):
يرى الإمام الغزالي ـ رحمه الله ـ في كتابه الجامع "إحياء علوم الدين" أن النهي عن تأويل القرآن الكريم إنما هو نهي عن نوعين من التأويل وهما:
1 - التأويل المذهبي الذي يحكم الرأي والهوى في تفسير القرآن الكريم بحيث يكون هذا الأخير تابعا لا متبوعا.
2 - التأويل الذي يحمل المعنى فيه على ظاهر اللغة العربية.
¥