وكذلك ما ذكره الشيخ ابن عثيمين رحمه الله حيث قال: (وهذا الذي حصل
أي بين الصحابة موقفنا نحن منه له جهتان:
الجهة الأولى: الحكم على الفاعل، والجهة الثانية: موقفنا من الفاعل.
أما الحكم على الفاعل فقد سبق، وأن ما ندين الله به أن ما جرى بينهم فهو
صادر عن اجتهاد، والاجتهاد إذا وقع فيه الخطأ فصاحبه معذور مغفور له.
وأما موقفنا من الفاعل فالواجب علينا الإمساك عما شجر بينهم. ولماذا نتخذ
من فعل هؤلاء مجالاً للسب والشتم والوقيعة فيهم والبغضاء بيننا؟ ونحن في فعلنا
هذا إما آثمون، وإما سالمون ولسنا غانمين أبداً).
فهذه طائفة من كلام أكابر علماء الإسلام من سلف هذه الأمة والمعاصرين؛
تبيّن منها الموقف الواجب على المسلم أن يقفه من الآثار المشتملة على النيل من
أحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين بسبب ما وقع بينهم من شجار، وخلاف، ومقاتلة؛ خاصة في حرب الجمل وصفين، وهو صيانة القلم واللسان عن ذكر ما
لا يليق بهم، وإحسان الظن بهم، والترضي عنهم أجمعين، ومعرفة حقهم ومنزلتهم، والتماس أحسن المخارج لما ثبت صدوره من بعضهم، واعتقاد بعضهم أنهم
مجتهدون؛ والمجتهد مغفور له خطؤه إن أخطأ، وأن الأخبار المروية في ذلك منها
ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه أو نقص منه حتى تحرّف عن أصله وتشوّه. كما
تبين من هذه النقول المتقدم ذكرها أن عقيدة الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة فيما
شجر بينهم هو الإمساك.
فالإجماع قد وقع من علماء المسلمين على السكوت عما شجر
بين الصحابة، وعدم التنقيب أو التنقير عما حصل بينهم من حروب وقتال؛ ولو
حسنت نية المتكلم أو السامع.
اعتراض:
لعل قائلاً يقول: قد سلمنا بما ذكرته وقرّرته آنفاً عن السلف، لكنّ هذا محمول
على من أراد ذكر ما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم على وجه التنقيص
والبغض، وسوء الظن بهم ونحوه مما هو مثار للفتنة عياذاً بالله.
أما من أراد ذكر ذلك على وجه المحبة للجميع، مع سلامة الصدر والترحم
عليهم وحسن الظن بهم؛ فهذا ليس محل نزاعنا!
أقول: لا يُسلّم لك ما قلته لعدة مخالفات شرعية؛ منها:
1 - أن هذا القول خلاف الأصل المقرر عند عامة السلف والخلف، وهو
السكوت عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم، سواء كان الحديث عنهم عن
حسن ظنٍ أو سوء ظن لما في ذلك من درء للمفسدة الحاصلة وسدّ للذريعة المفضية
للشبه والفتنة كما هو معلوم من الواقع بالضرورة.
فهذا العوام بن حوشب يقرر هذا الأصل: (أدركت من صدر هذه الأمة
بعضهم يقول لبعض: (اذكروا محاسن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
لتأتلف عليها القلوب، ولا تذكروا ما شجر بينهم فتحرّشوا الناس
عليهم)، وبلفظ آخر قال: ( .. فتجسّروا الناس عليهم).
2 - وكذلك هو أيضاً خلافٌ للأصل المحقق وهو الوقوع في الفتنة؛ ولهذا لا
يجوز لك أن تخالف أصلاً محققاً رجاء سلامة صدرٍ مظنونة!
فقد قال رسول الله: (الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما مشتبهات لا يعلمها
كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في
الشبهات وقع في الحرام، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه؛ ألا وإن لكل
ملك حمى، ألا إن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح
الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي: القلب).
وعن الحسن بن علي قال: حفظت من رسول الله: (دع ما يريبك إلى ما لا
يريبك).
3 - أيضاً في ذكر ما حصل بين الصحابة رضي الله عنهم مع ادعاء أمن الفتنة
وسلامة الصدر؛ أمنٌ من مكر الله تعالى، عياذاً بالله فقد قال الله تعالى في سورة
الأعراف: ? أََفَأََمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَاًمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ ?.
وكذلك فيه تعرّض للفتن التي طالما استعاذ منها النبي؛ فعن المقداد بن الأسود
قال: وأيم الله! لقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إن السعيد
لمن جُنّب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن
ابتلي فصبر فواها).
4 - لو سلمنا أن أحداً خاض فيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم؛ ثم
خرج من ذلك بسلامة صدر وصفاء قلب؛ لكان هذا تحصيل حاصل ونوع عبث،
ومخالفة لمنهج السلف الصالح تجاه هذه الفتنة، بل هو في الحقيقة ضرب من
الخيال، وخلاف الواقع المألوف.
¥