وأما الإمام يحيى بن شرف النووي، فقد قال فيه الذهبي في تذكرة الحفاظ [4/ 259]: " الإمام الحافظ الأوحد القدوة شيخ الإسلام علم الأولياء ... صاحب التصانيف النافعة "، وقال: " مع ما هو عليه من المجاهدة بنفسه والعمل بدقائق الورع والمراقبة وتصفية النفس من الشوائب ومحقها من أغراضها، كان حافظاً للحديث وفنونه ورجاله وصحيحه وعليله، رأساً في معرفة المذهب ".
وقال ابن كثير في البداية والنهاية [17/ 540]: " ثم اعتنى بالتصنيف، فجمع شيئاًَ كثيراً، منها ما أكمله ومنها ما لم يكمله، فمما كمل شرح مسلم والروضة والمنهاج والرياض والأذكار والتبيان وتحرير التنبيه وتصحيحه وتهذيب الأسماء واللغات وطبقات الفقهاء وغير ذلك، ومما لم يتممه – ولو كمل لم يكن له نظير في بابه – شرح المهذب الذي سماه المجموع، وصل فيه إلى كتاب الربا، فأبدع فيه وأجاد وأفاد وأحسن الانتقاد، وحرر الفقه فيه في المذهب وغيره، وحرر فيه الحديث على ما ينبغي، والغريب واللغة وأشياء مهمة لا توجد إلا فيه ... ولا أعرف في كتب الفقه أحسن منه، على أنه محتاجٌ إلى أشياء كثيرة تزاد فيه وتضاف إليه ".
ومع هذه السعة في المؤلفات والإجادة فيها لم يكن من المعمرين، فمدة عمره خمس وأربعون سنة، ولد سنة (631هـ)، وتوفي سنة (676هـ).
وأما الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، فهو الإمام المشهور بتآليفه الكثيرة، وأهمها فتح الباري شرح صحيح البخاري، الذي هو مرجع عظيم للعلماء، ومنها الإصابة وتهذيب التهذيب وتقريبه ولسان الميزان وتعجيل المنفعة وبلوغ المرام وغيرها.
ومن المعاصرين الشيخ العلامة المحدث ناصر الدين الألباني، لا أعلم له نظيراً في هذا العصر في العناية بالحديث وسعة الإطلاع فيه، لم يسلم من الوقوع في أمور يعتبرها الكثيرون أخطاء منه، مثل اهتمامه بمسألة الحجاب وتقرير أن ستر وجه المرأة ليس بواجب، بل مستحب، ولو كان ما قاله حقاً فإنه يعتبر من الحق الذي ينبغي إخفاؤه، لما ترتب عليه من اعتماد بعض النساء اللاتي يهوين السفور عليه، وكذا قوله في كتاب صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: " إن وضع اليدين على الصدر بعد الركوع بدعة ضلالة " وهي مسألة خلافية، وكذا ما ذكره في السلسلة الضعيفة (2355) من أن عدم أخذ ما زاد على القبضة من اللحية من البدع الإضافية، وكذا تحريمه الذهب المحلق على النساء، ومع إنكاري عليه قوله في هذه المسائل فأنا لا أستغني وأرى أنه لا يستغني غيري عن كتبه والإفادة منها، وما أحسن قول الإمام مالك رحمه الله: " كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر، ويشير إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ".
وهذه نقول عن جماعة من أهل العلم في تقرير وتوضيح اغتفار خطأ العالم في صوابه الكثير:
قال سعيد بن المسيب (93هـ): " ليس من عالم ولا شريف ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من كان فضله أكثر من نقصه ذهب نقصه لفضله، كما أنه من غلب عليه نقصانه ذهب فضله. وقال غيره: لا يسلم العالم من الخطأ، فمن أخطأ قليلاً وأصاب كثيراً فهو عالم، ومن أصاب قليلاً وأخطأ كثيراً فهو جاهل ". جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر [2/ 48].
وقال عبد الله بن المبارك (181هـ): " إذا غلبت محاسن الرجل على مساوئه لم تذكر المساوئ، وإذا غلبت المساوئ على المحاسن لم تذكر المحاسن ". سير أعلام النبلاء للذهبي [8/ 352 ط. الأولى].
وقال الإمام أحمد (241هـ): " لا يعبر الجسر من خراسان مثل إسحاق (يعني ابن راهويه)، وإن كان يخالفنا في أشياء؛ فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً ". سير أعلام النبلاء [11/ 371].
وقال أبو حاتم ابن حبان (354هـ): " كان عبد الملك – يعني ابن أبي سليمان – من خيار أهل الكوفة، وحفاظهم، والغالب على من يحفظ ويحدث من حفظه أن يهم، وليس من الإنصاف ترك حديث شيخ ثبتٍ صحت عدالته بأوهام يهم في روايته، ولو سلكنا هذا المسلك للزمنا ترك حديث الزهري وابن جريج والثوري وشعبة؛ لأنهم أهل حفظ وإتقان، وكانوا يحدثون من حفظهم، ولم يكونوا معصومين حتى لا يهموا في الروايات، بل الاحتياط والأولى في مثل هذا قبول ما يروي الثبت من الروايات، وترك ما صح أنه وهم فيها ما لم يفحش ذلك منه حتى يغلب على صوابه، فإن كان كذلك استحق الترك حينئذ ". الثقات [7/ 97 - 98].
¥