ومما وقع لي معه رحمه وأكبرته فيه تواضعه وإنصافه سمعت منه في مبحث زكاة الحلي في أضواء البيان عند سرد الأدلة ومناقشتها أن من أدلة الموجبين حديث المرأة اليمنية ومعها ابنتها وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب فسألها صلى الله عليه وسلم: "أتؤدين زكاة هذا" فقالت: لا. فقال: "هما حسبك من النار". فخلعتهما وألقت بهما.
وأجاب المانعون بأن ذلك كان قبل إباحة الذهب للنساء فتساءلت مستوضحاً منه رحمه الله: وماذا يسمى هذا منه صلى الله عليه وسلم سكوته عن لبسه وهو محرم وسؤاله عن زكاته فقال عجباً إن هذا يتضمن وجود اللبس عند السؤال ويدل على إباحته آنذاك لأنه صلى الله عليه وسلم لا يقر أحداً على محرم ولا يتأتى أن يسكت على لبسها إياه وهو ممنوع ويهتم لزكاته ولو أعيد طبع الكتاب لنبهت عليه رغم أن جميع المراجع لم تلتفت إليه فهو بهذا يلقن طلبة العلم درساً في موقفه من الحق ولكأني بكلام عمر رضي الله عنه في كتابه لأبي موسى رحمه الله ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت فيه نفسك وظهر لك الحق أن تأخذ به فالحق أحق أن يتبع. وقد رأينا من قبل للشافعي القديم والجديد. وهذا ما يقتضيه إنصاف العلماء وأمانة العلم.
هذا ما وسعني ذكره عن حياته العلمية في نشأته وتعلمه وتعليمه وعن تراثه العلمي في مؤلفاته وآثاره التربوية في أبنائه وأبناء العالم الإسلامي كله رحمه الله رحمة واسعة.
ولعل من أبنائه الحضور أو غيرهم من لديه المزيد على ذلك.
أما الناحية الشخصية: في تقويمه الشخصي لسلوكه، وأخلاقه، وآدابه، وكرمه، وعفته، وزهده وترفع نفسه وما إلى ذلك. فهذا ما يستحق أن يفرد بحديث، وإني لا أستطيع الآن تصويره ولا يسعني في هذا الوقت تفصيله. وما كان رحمه الله يحب أن يذكر عنه شيء في ذلك. ولكن على سبيل الإجمال لو أن للفضائل والمكرمات والشيم وصفات الكمال في الرجال عنوان يجمعها لكان هو أحق به.
وإذا كان علماء الأخلاق يعنونون لأصول الأخلاق والفضائل بالمروءة فإن المروءة كانت شعاره ودثاره. وكانت هي التي تحكمه في جميع تصرفاته سواء في نفسه أو مع إخوانه وطلابه أو مع غيرهم من عرفهم أو لم يعرفهم. وقد قال فيه بعض الناس في حياته إنه لا عيب فيه سوى عيب واحد هو أننا نفقده بعد موته.
وإن تفصيل ذلك لمتروك لمن خالطه عن قرب. ولقد استعصى علي المقال في ذلك ولكأني بقول القائل:
أهابك إجلالاً وما بك سلطة علي ولكن ملء عين حبيبها
ولكن قد تكفي الإشارة إذا لم تسعف العبارة. وأقرب شيء زهده في الدنيا وعفته عما في أيدي الناس وكرمه بما في يده: لأن هذا لا يعلم إلا لمن خالطه وليس كل من خالطه يعرف ذلك منه بل من داخله ولازمه.
والواقع أن الدنيا لم تكن تساوي عنده شيئاً فلم يكن يهتم لها. ومنذ وجوده في المملكة وصلته بالحكومة حتى فارق الدنيا لم يطلب عطاء ولا مرتباً ولا ترفيعاً لمرتبه ولا حصولاً على مكافأة أو علاوة. ولكن ما جاءه من غير سؤال أخذه وما حصل عليه لم يكن ليستبقيه بل يوزعه في حينه على المعوزين من أرامل ومنقطعين وكنت أتولى توزيعه وإرساله من الرياض إلى كل من مكة والمدينة. ومات ولم يخلف درهماً ولا ديناراً وكان مستغنياً بعفته وقناعته. بل إن حقه الخاص ليتركه تعففاً عنه كما فعل في مؤلفاته وهي فريدة فينوعها. لم يقبل التكسب بها وتركها لطلبة العلم.
وسمعته يقول: لقد جئت معي من البلاد بكنز عظيم يكفيني مدى الحياة وأخشى عليه الضياع. فقلت له وما هو قال القناعة. وكان شعاره في ذلك قول الشاعر:
الجوع يطرد بالرغيف اليابس فعلام تكثر حسرتي ووساوسي
وكان اهتمامه بالعلم وبالعلم وحده وكل العلوم عنده آلة ووسيلة وعلم الكتاب وحده غاية وكان كثيراً ما يتمثل بأبيات الأديب محمد بن حنبل الحسن الشنقيطي رحمه الله في قوله:
لا تسوء بالعلم ظناً يا فتى إن سوء الظن بالعلم عطب
لا يزهدك أحد في العلم أن غمر الجهال أرباب الأدب
إن تر العالم نضوا مرملا صفر كف لم يساعده سبب
وترى الجاهل فد حاز الغنى محرز المأمول من كل أرب
قد تجوع الأسد في أجامها والذئاب الغبش تعتام القتب
جرع النفس على تحصيله مضض المرين ذل وسغب
لا يهاب الشوك قطاف الجنى وإبار النحل مشتار الضرب
¥