تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الاجتماعي والفكري والحضاري للمسلمين، فتراهم ينتقون من الكتابات أكثرها

سطحية وتشويهاً، أو يتعاقدون مع «خياطي» الكتابة الذين يكتبون لا عن مبدأ أو

عقيدة، خلا عقيدة الارتزاق (والشيخ البوطي ليس من هؤلاء)، فيسطون على

الكتب والمراجع، ويقصون منها ما يناسب شروط العقد! ويفصلونه زياً على

حسب الطلب، صيفياً أو شتائياً، رجالياً أو نسائياً، طويلاً ضافياً فضفاضاً، أو

قصيراً ممسوخاً، كاسياً عارياً، أو منتعلاً حافياً، وهكذا .. وابن تيمية من هذه

الشخصيات التي تعتبر موضوعاً غنياً لكتاب المسلسلات هؤلاء، والنفس المستفاد

مما صوره به البوطي نفس هؤلاء الكتاب: دعاوى عريضة، وتشويه مقصود،

وهوى غلاب والعياذ بالله.

هذه أمثلة مما جادت به قريحة الشيخ في تصوير ابن تيمية:

اللوحة الأولى:

هذه مائدة الفلسفة مفروشة، مصفوفة أطباقها - بتنسيق وترتيب جميل، وقد

أعدت وجهزت حتى يرتادها الناس، كل الناس، وفجأة يدخل صبي صغير طائش،

وإن شئت فرجل أخرق مجنون يذود الناس يميناً وشمالاً عن هذه المائدة، يريد أن

يختص بها لنفسه فقط، لا يستفيد منها، بل «ليعثو [3] بأطباقها كما يحب»،

تكسيراً وتحطيماً وتخليطاً، يضع من هذا الطعام على ذاك، دون مراعاة للأذواق أو

المراسم! وهو بين هذا وذاك «يصيح في كل من حوله» [4]!!

هذه صورة ابن تيمية عند هذا الرجل الداعية الذي يحترم العلم والعلماء!

أليس هذا ما ينطق به كلامه التالي:

«أما الثاني (أي ابن تيمية) فقد تربى على مائدة الفلسفة يتناول منها ويعثو

بأطباقها كما يحب، ويصيح في كل من حوله! يطردهم عن المائدة، ويحذرهم من

أن يذوقوا منها مذاقاً، لأن كل ما عليها طعام آسن ضار غير مفيد!!»

[ص 163].

صورة طريفة مع أنها مزعجة، وبخاصة عندما يختلط صراخ ابن تيمية -

رحمه الله - بصوت الأطباق التي ينهال عليها تكسيراً وتفتيتاً. وقديماً قيل: أعذب

الشعر أكذبه!

ولوحة ثانية:

هذا ابن تيمية قد طوح بنفسه في بحر الفلسفة، وتعرض لما لا يحسن أن

يتعرض له، وخدعته نفسه حين ظن أنه قادر على السباحة في هذا البحر،

والسلامة من أخطاره، فها هو يتطوح هكذا وهكذا مضطرباً تائهاً لا يدري كيف

الخلاص، كشخص فقد دليله في مفازة مترامية الأطراف لا يدري أين طريق النجاة ..

اقرأ قول البوطي بنصه التالي وتأمل:

«والعجب الثاني، أنه - وهو المحذر من سمادير الفلاسفة وأوهامهم - لم

ينج من هذه الأوهام والسمادر، بل أصابه بعض رشاشها، بل أصابه بعض من

أخطار رشاشها؟ ومع ذلك فهو لم يتبنها ويعتقد بها من منطلق التثبت العلمي الجازم،

ولكن تطوح في شأنها تطوح المضطرب، وناقض نفسه في حديثه عنها مناقضة

التائه وقع في مهمه لا يتبين سبيلاً للخلاص منه» [ص 163].

وبعد:

فإن هذا الأسلوب الذي يكتب به البوطي ابن تيمية يناقض ما جاء في حاشيته

على (وقفته مع ابن تيمية) ص 158 والتي يقول فيها:

«ليس الهدف من عرض ما قد يؤخذ على ابن تيمية هنا، تفسيقه أو تبديعه،

كما فعل بعض خصومه، وإنما القصد أن ننبه إلى خطأ ما وقع فيه، ثم إلى

التماس العذر له من خلال العثور على نصوص أخرى يناقض فيها نفسه في هذه

النقاط التي أخذت عليه .. ».

لو أن البوطي فسق أو بدع لكان الخطب أهون والتبعة أخف محملاً على نفسه،

إذا لا يعدو بعمله ذاك أن يكون كرر شيئاً قد قيل من قبل، ولم يأت بجديد، ولكن

الشيخ البوطي يأبى إلا أن يبذ الأوائل ببدواته وإبداعه، فيسخر ويتشفى، ويتعالى

ثم يتواضع، ويقدر ثم يعفو، ويدين المجرم بجرائمه الواضحة، ثم - لفرط

إنسانيته وفروسيته - يذهب ويفتش في حيثيات القضية، لعله يعثر على ما يجعله

يتجاوز عن إنزال العقوبة الرادعة المستحقة. هذا ما تدل عليه حاشيته تلك التي تلح

علينا بأن يكون لنا معها وقفة أخرى.

*يتبع*


(1) هكذا في مجموع الفتاوى ولعلها: لا يوثق بعلم.
(2) زاهد الكوثري في مقدمته لكتاب تبيين كذب المفتري لابن عساكر.
(3) يراجع معنى يعثو في لسان العرب و (يعثو) هذه أخت (ينغصون) التي وصف بها الصحابة!.
(4) اقرن هذه العبارة بالعبارة الواردة في كتابه [ص 245]: (فصاح فيه أن يخرج)! والتي أشرنا
¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير