في واحد من تعاليقه، وما أصدق هذا القول فيه وفي من يمشي على خطاه.
ويدعي أيضاً أن ابن تيمية (يمارس سعادة ولذة كبيرة في نقده معظم الأئمة
والعلماء).
والجواب على ذلك: أما أن ابن تيمية ينقد كثيراً من العلماء فهذا حق، ولا
حرج عليه في ذلك إن شاء الله، فلم يزل العلماء ينقد بعضهم بعضاً ويرد بعضهم
على بعض، وهذا مما يفتخر به الفكر الإسلامي، ونعتبره مظهراً من مظاهر حرية
الفكر التي طبعت هذا التاريخ، وأما أنه يمارس سعادة ولذة كبيرة في النقد فهذا
يحتاج إلى بينة: إما من إقرار ابن تيمية نفسه؛ كأن يقول مثلاً: ما أسعدني حين
أنقد عالماً! أو: ما ألذ الهجوم على فلان من العلماء؛ أو ما في معنى ذلك! أو أن
ينقل لنا البوطي شيئاً مما نقد به ابن تيمية غيره، ويضع أصابعنا على تلك السعادة
وتلك اللذة! وحيث إنه لا إقرار من ابن تيمية، بل عكس ذلك كثير ومثبوت في
تضاعيف مؤلفاته؛ ولا نقل من البوطي، ولم يدع هو لنا -كما لم نعهد عنده -
القدرة على التدسس في مشاعر وأحاسيس ونوايا غيره؛ فستظل هذه دعوى لا تضر
إلا مدعيها.
ويتطرف البوطي في أوهامه وتقديراته، فيرى أن ابن تيمية يستسيغ
ويستجيز تبرئة الفلاسفة القائلين بقدم العالم من الكفر إذا كان في ذلك وسيلة لتخطئة
ابن حزم وبيان جهله! وهذه عبارته:
( .. إذ لما كان في الانتصار لمذهب الفلاسفة في هذه المسألة، بإبعاد
تهمة الكفر عنهم بسببها على أقل تقدير، ما يظهر ابن حزم في الإجماع الذي نقله،
في مظهر المخطئ المتسرع الذي لا يتثبت في الأحكام، فلقد كان للجنوح إلى
مذهب الفلاسفة وتهوين القول بالقدم النوعي للمادة، ما يبرره! ولعل - من
أقوى المبررات في نظره وشعوره [4] أن يصل إلى تخطئة ابن حزم وبيان جهله!)
[كتابه ص 173].
وحتى يكتمل عجبنا من هذه الجرأة، (ونستحي أن نسميها بغير هذا الاسم)
لنستمع إلى رأي ابن تيمية بابن حزم الذي يدافع عنه البوطي هذا الدفاع المبطل،
ويرى أن ابن تيمية يستحل الكفر إذا كان ذلك سبيلاً إلى ماذا؟! إلي أمر بسيط
بالنسبة للكفر؟ تخطئة ابن حزم وبيان جهله!
يقول ابن تيمية معقباً على ذم العلماء لابن حزم بسبب اتباعه الظاهر، ونفيه
المعاني في الأمر والنهي والاشتقاق، وما في كلامه من الواقعية في الأكابر،
والإسراف في نفي المعاني، ودعوى متابعة الظواهر:
( ... وإن كان له من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة ما لا يدفعه إلا
مكابر، ويوجد في كتبه من كثرة الاطلاع على الأقوال والمعرفة بالأحوال،
والتعظيم لدعائم الإسلام ولجانب الرسالة ما لا يجتمع مثله لغيره. فالمسألة التي
يكون فيها حديث يكون جانبه فيها ظاهر الترجيح، وله من التمييز بين الصحيح
والضعيف والمعرفة بأقوال السلف ما لا يكاد يقع مثله لغيره من الفقهاء) [مجموع
الفتاوى 4/ 19 - 20].
ولا ندري بعد هذا كيف نوفق بين هذه الشهادة التي يشهدها ابن تيمية في ابن
حزم، وبين الشهادة التي يستخلصها البوطي ويقول: إنها ديدن ابن تيمية لا مع ابن
حزم بل مع معظم الأئمة والعلماء! والأعجب من هذا أنه يعتبر هذه الافتراءات
والترهات التي أوصله إليها تفكيره دفاعاً عن ابن تيمية حيث يقول:
(ولعل خير دفاع عنه (عن ابن تيمية) في تحليل أسباب هذا التناقض
العجيب الذي تلبس به، أن نتذكر طبيعته النقدية لمعظم الأئمة والعلماء، حتى لكأنه
يمارس سعادة ولذة كبيرة في ذلك). أرأيت إلى هذا الدفاع؟! ألا يذكرك بتسمية
هجوم إسرائيل وإغارتها على ما حواليها من الدول واحتلالها أرضها دفاعاً؟!
بل لا يستحي من تكرار هذا المعنى عندما يقول: (إن هذا التحليل لهذا
الاضطراب المتناقض [5] في موقف ابن تيمية في هذه المسألة هو - بنظري -
أقرب ما ينسجم مع الدفاع عن عقيدته الإسلامية التي لا نحب أن نرتاب فيها)
والحمد لله على أن وضع هذا الاحتراس: (بنظري) في ثنايا هذه النتيجة التي
وصل إليها، فهو احتراس جميل بقدر ما هو منصف، حيث لم يسد الباب أمام
أنظار أخرى تقرأ لابن تيمية وتحكم عليه.
المسألة الثانية: نظرية الكسب:
ينسب البوطي لابن تيمية مخالفته عامة أهل السنة والجماعة. ومن يسميهم
عامة أهل السنة والجماعة هنا هم الأشاعرة.
وعلى عادة البوطي في الإيهام والعبارات الملتوية، يدعي على الخصم
¥