فإن المنفى نفى بباء المقابلة والمعاوضة، كما يقال: بعت هذا بهذا، وما أثبت أثبت بباء السبب، فالعمل لا يقابل الجزاء وإن كان سببا للجزاء؛ ولهذا من ظن أنه قام بما يجب عليه وأنه لا يحتاج إلى مغفرة الرب تعالى وعفوه، فهو ضال، كما ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لن يدخل أحد الجنة بعمله)، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا، إلا أن يتغمدنى الله برحمة منه وفضل) وروى (بمغفرته)، ومن هذا أيضاً: الحديث الذى فى السنن عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيراً من أعمالهم) الحديث.
ومن قال: بل للمخلوق على الله حق، فهو صحيح إذا أراد به الحق الذى أخبر الله بوقوعه، فإن الله صادق لا يخلف الميعاد، وهو الذى أوجبه على نفسه بحكمته وفضله ورحمته، وهذا المستحق لهذا الحق إذا سأل الله تعالى به يسأل الله تعالى إنجاز وعده، أو يسأله بالأسباب التى علق الله بها المسببات كالأعمال الصالحة، فهذا مناسب، وأما غير المستحق لهذا الحق إذا سأله بحق ذلك الشخص فهو كما لو سأله بجاه ذلك الشخص، وذلك سؤال بأمر أجنبى عن هذا السائل لم يسأله بسبب يناسب إجابة دعائه.
وأما سؤال الله بأسمائه وصفاته التى تقتضى ما يفعله بالعباد من الهدى والرزق والنصر، فهذا أعظم ما يسأل الله تعالى به. فقول المنازع: لا يسأل بحق الأنبياء، فإنه لا حق للمخلوق على الخالق: ممنوع فإنه قد ثبت فى الصحيحين حديث معاذ الذى تقدم إيراده، وقال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]، وقال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47].
فيقال للمنازع: فى هذا فى مقامين:
أحدهما: فى حق العباد على الله، والثانى: فى سؤاله بذلك الحق.
أما الأول: فلا ريب أن الله تعالى وعد المطيعين بأن يثيبهم، ووعد السائلين بأن يجيبهم، وهو الصادق الذى لا يخلف الميعاد، قال الله تعالى: {وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً} [النساء: 122]، {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 6]، {فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} [إبراهيم: 47]، فهذا مما يجب وقوعه بحكم الوعد باتفاق المسلمين. وتنازعوا: هل عليه واجب بدون ذلك؟ على ثلاثة أقوال، كما تقدم.
قيل: لا يجب لأحد عليه حق بدون ذلك.
وقيل: بل يجب عليه واجبات ويحرم عليه محرمات بالقياس على عباده.
وقيل: هو أوجب على نفسه وحرم على نفسه، فيجب عليه ما أوجبه على نفسه، ويحرم عليه ما حرمه على نفسه، كما ثبت فى الصحيح من حديث أبى ذر، كما تقدم.
والظلم ممتنع منه باتفاق المسلمين، لكن تنازعوا فى الظلم الذى لا يقع، فقيل: هو الممتنع وكل ممكن يمكن أن يفعله لا يكون ظلماً؛ لأن الظلم إما التصرف فى ملك الغير، وإما مخالفة الأمر الذى يجب عليه طاعته، وكلاهما ممتنع منه.
وقيل: بل ما كان ظلماً من العباد فهو ظلم منه.
وقيل الظلم وضع الشىء فى غير موضعه، فهو سبحانه لا يظلم الناس شيئاً، قال تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: 112]. قال المفسرون: هو أن يحمل عليه سيئات غيره ويعاقب بغير ذنبه، والهضم أن يهضم من حسناته، وقال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40]، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} [هود: 101].
وأما المقام الثانى: فإنه يقال: ما بين الله ورسوله أنه حق للعباد على الله فهو حق، لكن الكلام فى السؤال بذلك، فيقال: إن كان الحق الذى سأل به سبباً لإجابة السؤال حسن السؤال به، كالحق الذى يجب لعابديه وسائليه.
¥