وقد حرصنا هنا على انتهاج نهج علماء الجرح والتعديل، لا في تثبتهم في الرواية والنقل فحسب، بل في منطلقهم الفكري الذي تأسس على الإيمان برجحان المبدإ على الشخص، على نحو ما برر به الإمام مسلم جرح الرواة في مقدمة صحيحه، من أنه "ليس من الغِيبة المحرمة، بل من الذب عن الشريعة المكرمة".
إن المنهج الذي ندعو إليه في هذه الدراسة، ونرى شيخ الإسلام ابن تيمية وبعض أهل الحديث خيرَ من نظَّر له وطبقه، هو منهج قائم على التوازن بين احترام مكانة الأشخاص والتقيد بقدسية المبادئ. وهو يراعي الترجيح الذي يصبح ضرورة شرعية وعملية أحيانا، حين لا يكون الجمع بين الأمرين متاحا، فيتحيز للمبادئ دون لجلجة.
بعد هذه المقدمة من كلام الشنقيطي حول التزام العلم والعدل، ودعائه أنه سينهج في كتابه هذا منهج أهل الحديث في التثبت في الرواية. يلزمه أن يكون عالما بعلوم الحديث التي تأهله أن يفهم منهجهم في التعامل مع الرواية أولا، ثم يطبقه عمليا. والحقيقة التي أبداها كتاب الأستاذ الشنقيطي أنه ليس من طلاب هذا العلم الذين يفهمونه، فضلا أن يكون من علمائه، وتضح ذلك من خلال المسائل التي تعرض لها من هذا العلم في كتابه.
وأولها مسألة العدالة عند المحدثين وقد تقدم الكلام عنها في أول وقفة من هذه الوقفات.
ثانيها مسألة منهجية المحدثين في تأليف كتبهم، وقد اتضح ذلك من خلال نقله كلاما للأمام النووي ونسبه إلى الأمام مسلم، وسبب في ذلك هو الجهل بنهج مسلم في تأليف كتابه، وأنه لم يبوبه.
قال في ص 26 على نحو ما برر به الإمام مسلم جرح الرواة في مقدمة صحيحه من أنه" ليس من الغيبة المحرمة بل من الذب عن الشريعة المكرمة ".
وقال في ص 47 وهو ما عبر عنه مسلم في مقدمة صحيحه بالقول: "باب بيان أن الإسناد من الدين وأن الرواية لا تكون إلا عن الثقات وإن جرح الرواة بما هو فيهم جائز بل واجب وأنه ليس من الغيبة المحرمة بل من الذب عن الشريعة المكرمة "
وهذا الكلام الإمام النووي كما في شرحه على مسلم:
باب بيان أنالاسناد من الدين وأن الرواية لا تكون إلا عن الثقات
وأن جرح الرواة بما هو فيهم جائز بل واجب وأنه ليس من الغيبة المحرمة بل من الذب عن الشريعة المكرمة.
شرح النووي على صحيح مسلم ج 1 ص 84
ومن المعلوم لدى طلاب علم الحديث المبتدئين فيه أن الإمام مسلم لم يبوب كتابه وإنما بوبه الشراح.
قال الإمام ابن الصلاح رحمه الله: " ثم إن مسلما رحمه الله وإيانا رتب كتابه على الأبواب، فهو مبوب في الحقيقة، ولكنه لم يذكر تراجم الأبواب؛ لئلا يزداد حجم الكتاب، أو لغير ذلك.
صيانة صحيح مسلم ص 101
والنسخة المشهورة من صحيح مسلم المتداولة هي نسخة محمد فؤاد عبد الباقي قد أدخل في صلب الكتاب تبويبات النووي كما فعل بعض النساخ للكتاب قديما وهو فعل منتقد من أهل العلم.
قال الشيخ محمد بن الشيخ علي بن آدم الأتيوبي:
لقد أساء في هذا الصنيع بعض من نسخ الكتاب، منهم الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، حيث أدخل التراجم في صلب الكتاب، فأوهم القارئ أنه من صنيع المصنف، فبئسما صنع فليتنبه لهذا الخطأ.
"قرا عين المحتاج في شرج مقدمة صحيح مسلم بن الحجاج " 1/ 51
واتضح ذلك من خلال تبنه لرأي قيل قبله وشاع عند المتأخرين وهو أن ابن حبان يوثق المجاهيل، ويصحح أحاديثهم. مع أن كلام ابن حبان المبرئ له من هذه التهمة واضح.
قال في ص 205
"إن لابن حبان منهجا في التصحيح شذ فيه عن منهج أهل الحديث الآخرين فهو يقول بتوثيق المجهولين من الرواة "
وهذا الكلام يرده كلام ابن حبان نفسه فقال مبينا أنه لا يوثق المجاهيل كما في ترجمة عبد الله بن المؤمل:
559 عبد الله بن المؤمل المخزومي شيخ من أهل مكة يروي عن أبي الزبير
¥