وثانياً: أنه مع أن الأحاديث النبوية عند أهل الحديث قسم واحد، فكلها (خبر آحاد)، كما سبق تقريره = إلا أن المحدثين أعرف الناس بتفاوت مراتبها في الصحة، وأدراهم باختلاف درجاتها في القوة، وألحظهم لدقيق فروق ثبوتها. ولهم في ذلك صولات وجولات، لها في علمهم ساحات مباركات، لا تخفى على من نخاطبه ويدري الخطاب
لكن عدم اعتبار المحدثين لهذا التفاوت ولتلك الفروق في درجات الصحة والقوة مسوغاً لتقسيم الأحاديث على أساسه، يدل دلالةً واضحةً على أن تلك الفروق في درجات الثبوت لم تبلغ درجة التأثير على حجية الأخبار، فجميعها يشملها حكم واحد يستفاد منها، لكن تتفاوت مراتب هذا الحكم الواحد.
وعندها نقول: إذا استفاد اليقين و (العلم) من بعض الأحاديث النبوية المتكلمون والجهلاء بالسنة وبعض من أعدائها وبعض من تأثر بهم في مثل ما أسموه بـ (المتواتر) وهو عند المحدثين من (الآحاد)، وفي بعض (الآحاد) أيضاً إذا احتفت به القرائن عند المحققين في أصول الفقه (1) = إذا استفادوا (العلم) من بعضها، فالمحدثون الذين هم حملة الآثار وأمناء الوحي وورثة النبوة أولى بما يربو على ذلك ويزيد
فكل ما يفيد (العلم) عند الأصوليين يفيده عند المحدثين من باب أولى.
لكن بقي ما قال الأصوليون إنه يفيد (الظن الموجب للعمل دون العلم) بذاته، وهو (الآحاد) عندهم. غير أن المحققين منهم قالوا بإفادة (الآحاد) لـ (العلم) إذا احتفت به قرائن تقوية، و (العلم) حينها نظري عندهم، كما سبق آنفاً.
فنقول لهم: رضينا بهذا القدر منكم، فاثبتوا عليه
والحمد لله أن الأصوليين لم يتدخلوا في تحديق القرائن؛ إنما ضربوا أمثلةً عليها
قال بدر الدين الزركشي (محمد بن بهادر بن عبد الله الشافعي، المتوفى سنة 794هـ) في كتابه (البحر المحيط في أصول الفقه): ((لم يتعرضوا لضابط القرائن، وقال المازري: لا يمكن أن يشار إليها بعبارة تضبطها. قلت (القائل الزركشي): ويمكن أن يقال: هي ما لا يبقى معها احتمال، وتسكن النفس عنده، مثل مكونها إلى الخبر المتواتر أو قريباً منه)) (2).
قلت: وكل هذا يرضاه المحدثون من الأصوليين
فإن صحح المحدثون حديثاً، مما تفرد بروايته راوٍ واحد، وهم (أعني المحدثين) أهل هذه الصنعة، وأعرف الناس بقواعدها وجزئياتها، وأخبرهم بأصولها وفروعها؛ ثم تصحيحهم ذلك الحديث معناه أنه انتفت عنه كل: العلل الظاهرة (من طعن في الرواة أو سقط في الإسناد) والعلل الباطنة (من شذوذ وتفرد من لا يحتمل التفرد بمثل ما تفرد به)، وقف عند العلل الباطنة، وقلب وجوهها ومعانيها عند المحدثين؛ لتعلم بعد ذلك كله، أنه إذا صحح المحدثون حديثاً (غريباً) (فرداً) = أنه أفاد العلم عندهم، لأنه استحال عندهم بعد النظر والاستدلال احتمال الكذب والغلط، ولاحت قرائن تفيد اليقين بذلك
ولا يعترض على المحدثين: بأن الأصوليين أو الفقهاء (غير المحدثين) لا يستفيدون (العلم) من ذلك الخبر، لأن عدم استفادتهم منه (العلم) لا ينفي أن غيرهم ممن الشأن شأنهم والفن فنهم والعلم علمهم = قد استفاد منه العلم
ولئن كان (المتواتر) منه ما هو عام يعرفه العامة، ومنه ما هو خاص لا يعرفه إلا الخاصة من أهل العلم (1). فكذلك القرائن: منها ماه و عام يعرفها الأصوليون والمحدثون، ومنها ما هو خاص لا يعرفه إلا المحدثون.
وما أشبه ذلك بـ (المتواتر) أيضاً، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في (علم الحديث): ((وعلماء الحديث يتواتر عندهم ما لا يتواتر عند غيرهم، لكونهم سمعوا ما لم يسمع به غيرهم، وعلموا من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يعلم غيرهم)) (2).
يقول ابن قيم الجوزية في (الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة): ((وكما أن العلم بالتواتر ينقسم إلى عام وخاص، فيتواتر عند الخاصة ما لا يكون معلوماً لغيرهم، فضلاً أن يتواتر عندهم= فأهل الحديث: لشدة عنايتهم بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وضبطهم لأقواله وأفعاله وأحواله، يعلمون من ذلك علماً لا يكون فيه، مما لا شعور لغيرهم به البتة)) (3).
¥