تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

هذه - كما ترى - كبوة خطيرة، بل انزلاقة قاتلة، وقولة منكرة في الإسلام، لا أعلم أنه سبق إليها؛ إذ هي سخرية ساخرة من مقام النبوة, والنبوة منزلة خاصة لا تنبغي إلا لأولئك المصطفين المختارين الذين اختارهم الله وجعلهم واسطة بينه وبين عباده في تبليغ الرسالة إليهم ونصحهم وهدايتهم, أولهم آدم وآخرهم خاتم النبيين محمد بن عبد الله العربي الهاشمي، وقد صرح الكتاب العزيز أنه خاتم النبيين حيث يقول الرب تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (الأحزاب: 40).

وادعاء النبوة لأحد بعده مصادمة لهذه الآية والأحاديث الصحيحة التي جاءت في هذا المعنى كقوله عليه الصلاة والسلام: "أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي"، وابن رشد قد قال قولاً شططاً بادعاء النبوة للفلاسفة، بل إنه يجعلهم نخبة ممتازة من الأنبياء ومرسلة إلى نخبة ممتازة من الناس - إذ يقول: "وكذلك الفلاسفة وهم أنبياء السبقة العالمة", ولست أدري ما مفهوم النبوة عند ابن رشد؟ حتى تبيح له فلسفته مثل هذا الادعاء علماً بأنه من الفلاسفة الذين يشملهم ادعاؤه فلاسفةُ اليونان من غير المسلمين مثل أستاذه أفلاطون ومثل أرسطو فهل تبيح فلسفة ابن رشد أن يكون أمثال هؤلاء من قدماء الفلاسفة وحدثائهم من المسلمين وغير المسلمين من أنبياء الله تعالى؟!! والله المستعان.

نعود إلى قول ابن رشد: "الحق لا يضاده الحق بل يوافقه ويشهد له". وهو حق بقطع النظر عما أراد به أبو الوليد، وسبق أن نقلنا عن بعض المحققين قوله: "العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح"، [4] وعندما يحصل الاختلاف بين العقل والنقل لا بد من أحد أمرين:

أحدهما: أن النقل غير صحيح في نفسه أو أسيء فهمه وفسر تفسيراً غير صحيح.

ثانيهما: المعقول الذي ادعى أن النقل يخالفه غير صريح وغير سليم, بل إنه أصيب بأدران الشبهة أو الهوى الذي غيّره حتى فقد العقل سلامته, بل هو إما مريض أو ملوث ولا محالة، ولو كان العقل يتمتع بعافيته وسلامته, والنقل يتمتع بصحته وقوته لا يكاد أن يختلفان.

وهذه قاعدة عظيمة ونافعة بإذن الله، ومقبولة لدى العقلاء المنصفين، بل لا يكاد يتردد فيها كل من نظر في العقليات، وله اطلاع على النقليات، ورزق التجرد عن التعصب والهوى والتحيز.

وقد أشار أبو الوليد بن رشد إلى هذه القاعدة في كتابه (منهاج الأدلة) في غير ما موضع في أثناء منقاشته لبعض علماء الكلام في تأويلهم البعيد عن روح الإسلام وفي رد شبههم التي عرضوها على الشريعة ليعارضوها بها، ومما قاله أبو الوليد في هذا الصدد قوله:

"وأشد ما عرض على الشريعة من هذا الصنف أنهم تأولوا كثيراً مما ظنوه ليس على ظاهره, وقالوا إن التأويل ليس هو المقصود به, وإنما أتى الله به في صورة المتشابه ابتلاء لعباده، واختباراً لهم"ثم قال أبو الوليد: "نعوذ بالله من هذا الظن بالله, بل نقول: إن كتاب الله العزيز إنما جاء معجزاً من جهة الوضوح والبيان"إلى أن قال: "وما أبعد عن مقصد الشرع من قال: فيما ليس بمتشابه أنه متشابه، ثم إنه أول ذلك المتشابه بزعمه وقال لجميع الناس: إن فرضكم هو اعتقاد هذا التأويل، مثل ما قالوه في آية الاستواء على العرش, وغير ذلك مما قالوا إن ظاهره متشابه"يشير أبو الوليد إلى بعض آيات الصفات التي حرفها كثير من علماء الكلام، وتبعهم كثير من الناس في تحريفهم باسم التأويل كآية مجيء الرب يوم القيامة {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} (الفجر:22) , وصفة المحبة {فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه} (المائدة: 54) , وصفة الرحمة التي دل عليها قوله عليه الصلاة والسلام: "الراحمون يرحمهم الرحمن"، و "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"، وصفة الرضاء المأخوذة من قوله تعالى: {رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (المائدة: 119) وغير ما ذكر من نصوص الصفات التي جاءت في الكتاب العزيز والسنة المطهرة, والتي سلط عليها أهل الكلام وكثير من الفلاسفة صنوف التأويل البعيدة عن مراد المتكلم بها، والتي أبعدت كثيراً من الناس عن المفهوم الصحيح لنصوص الصفات، ويضرب أبو الوليد مثالاً رائعاً لهذا الصنف من الناس فيقول: "ومثال من أوّل شيئاً من الشرع وزعم أنّ ما أوله هو ما قصده الشرع، وصرح بذلك

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير