تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

العبد إذا أيقن أن الله تعالى فوق السماء عالٍ على عرشه بلا حصر ولا كيفية، وأنه الآن في صفاته كما كان في قدمه، صار لقلبه قبلة في صلاته، وتوجهه، ودعائه، ومن لا يعرف ربه بأنه فوق سماواته على عرشه فإنه يبقى ضائعاً لا يعرف وجهة معبوده، لكن لو عرفه بسمعه، وبصره، وقدمه، وتلك بلا هذا معرفة ناقصة بخلاف من عرف أن إلهه الذي يعبده فوق الأشياء، فإذا دخل في الصلاة وكبر توجه قلبه إلى جهة العرش، منزهاً ربه تعالى عن الحصر، مفرداً له كما أفرده في قدمه وأزليته، عالماً أن هذه الجهات من حدودنا ولوازمنا، ولا يمكننا الإشارة إلى ربنا في قدمه، وأزليته إلا بها، لأنا مُحدَثُون والمحدث لا بد له من في إشارته إلى جهة فتقع تلك الإشارة إلى ربه كما يليق بعظمته، لا كما يتوهمه هو من نفسه، ويعتقد أنه في علوه قريب من خلقه، هو معهم بعلمه، وسمعه، وبصره، وإحاطته، وقدرته، ومشيئته، وذاته فوق الأشياء، فوق العرش، ومتى شعر قلبه بذلك في الصلاة، أو التوجه أشرق قلبه واستنار، وأضاء بأنوار المعرفة والإيمان، وغشيت أشعة العظمة على عقله وروحه ونفسه فانشرح لذلك صدره، وقوي إيمانه، ونزه ربه عن صفات خلقه من الحصر والحلول، وذاق حينئذٍ شيئاً من أذواق السابقين المقربين بخلاف من لا يعرف وجهة معبوده، وتكون الجارية راعية الغنم أعلم بالله منه، فإنها قالت: ((في السماء))، عرفته بأنه على السماء؛ فإن في تأتي بمعنى على كقوله تعالى: {يتيهون في الأرض} أي على الأرض. وقوله: {لأصلبنكم في جذوع النخل} أي على جذوع النخل (2)، فمن تكون الراعية أعلم بالله منه لكونه لا يعرف وجهة معبوده فإنه لا يزال مظلم القلب لا يستنير بأنوار المعرفة والإيمان، ومن أنكر هذا القول فليؤمن به، وليجرب، ولينظر إلى مولاه من فوق عرشه بقلبه مبصراً من وجه، أعمى من وجه، كما سبق مبصراً من جهة الإثبات والوجود والتحقيق، أعمى من جهة التحديد، والحصر، والتكييف، فإنه إذا عمل ذلك وجد ثمرته إن شاء الله تعالى، ووجد نوره، وبركته عاجلاً وآجلاً {ولا ينبؤك مثل خبير}.

فصل

في تقريب مسألة الفوقية من الأفهام بمعنى من علم الهيئة لمن عرفه:

لا ريب أن أهل هذا العلم حكموا بما اقتضته الهندسة، وحكمها صحيح لأنه ببرهان لا يكابر الحس فيه بأن الأرض في جوف العالم العلوي، وأن كرة الأرض في وسط السماء كبطيخة في جوف بطيخة، والسماء محيطة بها من جميع جوانبها، وأن أسفل العالم هو جوف كرة الأرض وهو المركز، ونحن نقول جوف الأرض السابعة وهم لا يذكرون السابعة، لأن الله تعالى أخبرنا عن ذلك، وهم لا يعرفون ذلك (1)، وهذه القاعدة عندهم هي ضرورية لا يكابر الحس فيها أن المركز هو جوف كرة الأرض، وهي منتهى السفل، والتحت، وما دونه لا يسمى تحتاً، بل لا يكون تحتاً، ويكون فوقاً بحيث لو فرضنا خرق المركز وهو سفل العالم إلى تلك الجهة لكان الخرق إلى جهة فوق، ولو نفذ الخرق إلى السماء من تلك الجهة الأخرى لصعد إلى جهة فوق.

وبرهان ذلك أنا لو فرضنا مسافراً سافر على كرة الأرض من جهة المشرق إلى جهة المغرب، وامتدَّ مسافر المشي على كرة الأرض إلى حيث ابتدأ بالسير وقطع الكرة مما يراه الناظر أسفل منه، وهو في سفره هذا لم تبرح ا"لأرض تحته والسماء فوقه، فالسماء التي يشهدها الحس تحت الأرض هي فوق الأرض لا تحتها؛ لأن السماء فوق الأرض بالذات فكيف كانت السماء كانت فوق الأرض من أي جهة فرضتها، ومن أراد معرفة ذلك فليعلم أن كرة الأرض النصف الأعلى منها ثقله على المركز، والنصف الأسفل ثقله على النصف الأعلى أيضاً على جهة المركز، والنصف الأسفل هو أيضاً فوق النصف الأعلى، كما أن النصف الأعلى فوق النصف الأسفل، ولفظ الأسفل فيه مجاز بحسب ما يتخيل الناظر، وكذلك كرة الماء محيطة بكرة الأرض إلا سُدْسُها (2)، والعمران على ذلك السدس، والماء فوق الأرض كسف كان، وإن كنا نرى الأرض مدحية على الماء فإن الماء فوقها، وكذلك كرة الهواء محيطة بكرة الماء وهي فوقها، وإذا كان الأمر كذلك فالسماء التي تحت النصف الأسفل من كرة الأرض هي فوقه لا تحته؛ لأن السماء على الأرض كيف كانت، فعلوها على الأرض بالذات فقط لا تكون تحت الأرض بوجه من الوجوه، وإذا كان هذا جسم وهو السماء علوها على الأرض بالذات فكيف من ليس كمثله شيء، وعلوه على كل شيء بالذات، كما قال تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى}. وقد تكرر في القرآن المجيد ذكر الفوقية: {يخافون ربهم من فوقهم}. {وإليه يصعد الكلم الطيب}. {وهو القاهر فوق عباده}. لأن فوقيته سبحانه وعلوه على كل شيء ذاتي له، فهو العلي بالذات، والعلو صفته اللائقة به، كما أن السفول، والرسوب، والانحطاط ذاتي للأكوان عن رتبة ربوبيته، وعظمته، وعلوه، والعلو والسفول حد بين الخالق والمخلوق، يتميز به عنه هو سبحانه عليٌّ بالذات، وهو كما كان قبل خلق الأكوان، وما سواه مستقل عنه بالذات، وهو سبحانه العلي على عرشه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ثم يعرج الأمر إليه فيحيي هذا، ويميت هذا، ويمرض هذا، ويشفي هذا، ويعرُّ هذا، ويُذلُّ هذا، وهو الحي القيوم القائم بنفسه، وكل شيء قائم به، فرحم الله عبداً وصلت إليه هذه الرسالة، ولم يعاجلها بالإنكار، وافتقر إلى ربه في كشف الحق آناء الليل والنهار، وتأمل النصوص في الصفات، وفكر بعقله في نزولها، وفي المعنى الذي نزلت له، وما الذي أريد بعلمها من المخلوقات، ومن فتح الله قلبه عرف أنه ليس المراد إلا معرفة الرب تعالى بها، والتوجه إليه منها، وإثباتها له بحقائقها وأعيانها، كما يليق بجلاله وعظمته، بلا تأويل ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، ولا جمود ولا وقوف، وفي ذلك بلاغ لمن تدبر، وكفاية لمن استبصر إن شاء الله تعالى، والحمد لله وحده، وصلى الله على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه وسلم، والله سبحانه أعلم.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير