جزاكم الله خيراً شيخنا الفاضل الأديب الأريب حارث الهمام على سعة صدركم و أناتكم في الرد على محبكم، و أنا إن كان في كلامي ما يوحي بأنني أعترض عليكم و أرد على بعض كلامكم فهذا إنما هو من باب ما يغلب على النقاش في المسائل العلمية، و إلا فإنه ليس لمثلي إلا أن يقف من مثلكم موقف التلميذ من شيخه، فمعذرة إن بدا مني غير ذلك.
قلتم شيخنا (وقد دلت الأدلة على أن السجود تعظيماً من جملة العبادة،)
و لكن ألا تتفقون معي على أن هذا هو أصل المسألة؟ أعني بذلك أن المخالف يفرق بين سجود التعظيم و سجود العبادة، فلو أنه كان يرى السجود تعظيماً من جملة العبادة و لو كان هذا الأمر متفقاً عليه لما كان هناك خلاف أصلاً حول حكم سجود التعظيم لغير الله. فبناء عليه أسأل سؤالاً ـ في القلب منه غصة ـ ماهي الأدلة على أن السجود تعظيماً من جملة العبادة؟ لا سيما و أنكم قلتم في مشاركتكم الأولى
(وأما السجود تعظيماً وإجلالاً للمقبور ظناً منه أن ذلك من جملة تعظيمه المشروع، فمسألة مشكلة كذلك)
فلو كانت الأدلة تدل على أن السجود تعظيماً من جملة العبادة فما وجه الإشكال في المسألة؟
و من جهة أخرى إذا كان السجود لا يستلزم التعظيم لغة كما قلتُم فما الدليل أن سجود المؤمن تعبداً لله فيه تعظيم لله؟
قلتم حفظكم الله (ولعل الحق أنه لم تصح حجة في أن السجود المذكور في سورة يوسف، أو التي أمرت به الملائكة كان سجود تعظيم مصروف ليوسف من دون الله تعالى.)
إن قول من قال من السلف أن هذين السجودين كانا للتعظيم لايستلزم أنه يقول أن هذا السجود هو صرف لحق من حقوق الله لآدم أو يوسف عليهما السلام، و بيان ذلك أن السجود إما أن يكون عبادة أو غير عبادة فكل سجود عبادة فيه تعظيم للمسجود له، و ليس كل سجود تعظيم يكون عبادة للمسجود له.
إن الذي حاولت قوله سابقاً أن العلماء من السلف و الخلف إن ذكر بعضهم التحية دون التعظيم أو ذكروها مقترنة به فليس ذلك من قبيل التفرقة في الوصف التي ينبني عليها التفرقة في الحكم، فنحن مثلاً نقول لمن يقف لتلقي القادم أنه وقف تحية و نقول أنه وقف تبجيلاً و نقول وقف توقيراً و تعظيماً لقدره و لا نريد بذكر التحية منفردة تارة و التبجيل منفرداً تارة أو التعظيم تارة أخرى أن نثبت تغايراً أو فرقاً و اختلافاً بين تلك المعاني لأن كل هذه المعاني متحققة في هذا الوقوف، و يبين هذا الأمر من واقع مسألتنا قول ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى 4/ 361: " ثم يقال السجود على ضربين سجود عبادة محضة وسجود تشريف ... " و كان قد قال قبل ذلك بقليل " فسجود الملائكة لآدم عبادة لله وطاعة له وقربة يتقربون بها إليه وهو لآدم تشريف وتكريم وتعظيم وسجود أخوة يوسف له تحية وسلام ... " فدل ذلك على أنه يسوق سجود التشريف و التكريم و التعظيم و التحية والسلام مساقاً واحداً بلا فرق و أن كل هذه السجودات بما فيها سجود التعظيم ليس لازماً أن تكون من جنس سجود العبادة.
إن من الأدلة على أنهم لم يفرقوا هذه التفرقة أن أحداً لم ينكر على من قال أن السجود ليوسف كان تعظيماً قائلاً لا بل كان تحية لا تعظيماً، نعم ذكر بعضهم التحية دون التعظيم و ذكر البعض الآخر التعظيم دون التحية و جمع بينهما آخرون و لم يكن مراد أي منهم التفرقة بين السجودين فلابد لإثبات مرادهم التفرقة من بيان.
أما المنكرون فهم إنما أنكروا أن يكون هذا السجود هو السجود بالهيئة المعروفة فقالوا بل إيماءً أو انحناءً، و ما ذاك ـ و الله أعلم ـ إلا لكونهم لم يتقبلوا أن يجوز السجود لأحد من الخلق على أي صورة تحية كان أو تعظيماً أو غير ذلك.
قلتم شيخنا (فبعضهم قال إن سجود إخوة يوسف تعظيم ليوسف عليه السلام، وقيل نحو ذلك في سجود الملائكة لكن ما هي حجة هذا القول؟ هل لمن قاله دليل؟)
رغم أنني لا أميل لما ذكرتموه من كون العلماء قد فرقوا بين سجود التحية و سجود التعظيم إلا أنني أقول أنه لو سلمنا بالتفرقة فلا حجة أيضاً للقائلين بأنه سجود تحية، هذا إن أريد بالحجة و الدليل النقل عن المعصوم عليه السلام.
أما إن أريد غير ذلك كاللغة والعقل فيأتي إن شاء الله في التالي
¥