أما الحديث فلفظ الحاكم ليس فيه " و أمرنا ألا نسجد لأحد إلا لله عز و جل " بل فيه " فقال جعفر: لا نسجد إلا لله فقال له النجاشي: و ما ذاك؟ قال: إن الله بعث فينا رسوله و هو الرسول الذي بشر به عيسى برسول يأتي من بعده اسمه أحمد فأمرنا أن نعبد الله و لا نشرك به شيئا و نقيم الصلاة و تؤتي الزكاة و أمرنا بالمعروف و نهانا عن المنكر قال: فأعجب الناس قوله ... " و الحديث قال عنه الذهبي: على شرط البخاري و مسلم، و ليس فيه دلالة قاطعة على كون السجود لغير الله شرك، أما المقطوع به في الحديث فهو كون السجود لغير الله ليس من شرعة هذا النبي صلى الله عليه و سلم، أما لفظة " و أمرنا أن لا نسجد لأحد إلا لله " فهي في مسند الإمام أحمد و عند الطبراني و فيه حديج بن معاوية قال الهيثمي في المجمع وثقه أبو حاتم وقال: في بعض حديثه ضعف وضعفه ابن معين وغيره وبقية رجاله ثقات، و قد ضعف حديث المسند الشيخ شعيب الأرناؤوط.
فالرواية الصحيحة ليس فيها " و أمرنا ألا نسجد لأحد إلا لله " و على فرض صحتها فلو دلت على كون السجود لغير الله كفر فلا وجه للتفريق بين سجود التعظيم و سجود التحية في هذا الحكم.
قلتُ
و يشكل على السابق الإجماع على كون السجود للصنم أو الشمس أو الكواكب تعظيماً لها كفر بقطع النظر عن قصد الساجد عبادتها أو عدمه، و قد يقال حلاً لهذا الإشكال أن كفر الساجد لها إنما هو بسبب تعظيمه ما أمر الله بإهانته أو نهى عن تعظيمه حال كونه اتخذ نداً لله،
فقلتم الله عز وجل لم يأمرنا بإهانة الشمس أو القمر،
نعم بارك الله فيكم، أمرُ الله بالإهانة عنيتُ به الصنم، أما الشمس و القمر فعنيتهما و الكواكب بقولي أو نهى عن تعظيمه ...
قلتم أحسن الله إليكم (ولهذا من عظمهما بغير سجوداً حامداً بذلك الله على فضله، وشاكراً لأنعمه كان في عداد المحسنين.)
و لكن هل شكر الله على نعمتي الشمس و القمر فيه تعظيم لهما؟ أليس هذا الشكر من تعظيم الله عز و جل؟ إنني أقول هذا الكلام لأنني لا أجد من نفسي تعظيماً للشمس و القمر، نعم أقول أنهما آيتان عظيمتان من آيات الله لكنني لا أعظمهما، كما أقول عن قيصر و كسرى مثلاً أنهما عظيما الروم و الفرس دون أن أكون بذلك معظماً لهما.
إنني أتصور تعظيم المرء لأشياخه أو آبائه أو أصحاب الفضل عليه، لكنني لا أتصور تعظيمه للشمس و القمر و الكواكب ما لم يقترن بذلك اعتقاد تأثيرها، بل إن أكثر الناس غافلون عن تعظيم الله عز و جل بمشاهدة إنعامه و تفضله عليهم بهذه الآيات فكيف بتعظيمها؟
فالسؤال هو هل يجوز تعظيم الشمس و القمر و الشجر و الحجر؟ إذا كان الجواب هو نعم يجوز تعظيمها فلا يكون لكلامي الذي نقلتموه وجه، أما إن كان لا يجوز فهل يكون شركاً أم لا؟
فإن كان شركاً أو ذريعة للشرك بخلاف تعظيم من أمرنا الله بتعظيمهم و تعظيم حقوقهم من الأنبياء و الصالحين و الآباء فكلامي حينئذ يكون له وجه، و الله أعلم.
(ولكن لعل الوجه الصحيح أن يقال الشمس والقمر لايتصور إرادة المرء بسجوده غير تعظيمهما،)
تعظيم المخلوقين منه ما هو كفر و منه ما ليس كذلك كما ذكرتُم في موضع آخر، فإذا تجاوز المعظِّم الحد في تعظيمه فعظم المخلوق كتعظيم الخالق فإنه يكفر بذلك و لو لم يسجد للمعظَّم.
و هذا هو معنى قولي حال كونه اتخذ نداً لله أي في التعظيم.
إذاً إذا جاز أن يكون من السجود لغيرالله ما ليس بكفر و جاز أن يكون من التعظيم لغير الله ما ليس بكفر، فهل سجود من سجد هذا السجود لما يعظمه هذا التعظيم يكون كفراً أم لا؟
قلتُم (فلا يتصور أن يكون مراد الساجد للشمس أو القمر تحية للشمس أو القمر، بخلاف السجود للبشر،)
و لكنكم بينتم في نهاية كلامكم أن هذا ممكن الوقوع حيثُ قلتم
(كما قال من قال في من سجد للقمر، فإن صح أنه يريد تحية لظنه أن ذلك مشروع ولايريد صرف عبادة منه للقمر ... )
قلتُ ذلك أن المفسدة متحققة بمجرد تعظيم ما اتخذ نداً لله مما نهى عن تعظيمه و إن لم يقترن بسجود أو غيره فهذا التعظيم محادة لله عز و جل، و أما تعظيم من أمر الله بتعظيمهم فليس فيه محادة لله عز وجل فلا يكون كفراً،
فقلتُم (مجرد تعظيم الشمس ليس بكفر، وكذلك القمر، وكذلك خلق السماوات والأرض.)
فكلامي السابق كان محاولة لإيجاد فرق مؤثر في الحكم بالكفر على من سجد تعظيماً للشمس و عدم الكفر على من سجد تعظيماً للصالحين، و إلا فالعز كما نقل القرافي رحمهما الله كان يستعظم هذا الموقف.
و ربما يصبح الكلام مقبولاً إذا عدل إلى " ذلك أن المفسدة متحققة بمجرد تعظيم ما اتخذ نداً لله مما نهى عن تعظيمه و إن لم يقترن بسجود أو غيره فإذا انضاف إلى هذه المفسدة مفسدة أخرى هي السجود لما نهى الله عن تعظيمه كان هذا السجود على هذا الوجه محادة لله عز و جل فيكون كفراً "
و بعدُ فقد حاولتُ في هذه المشاركة أن أوضح مرادي من بعض ما كنتُ قلتُه فيما مضى و كذلك الاستفسار عن بعض ما أشكل علي من كلام الشيخ الفاضل حارث الهمام، فأدعو الله عز و جل أن يوفقنا للصواب في هذه المسألة التي أشكلت و ما تزال تشكل علي، ولكنني في النهاية أميل إلى التوقف في وصف السجود لغير الله بالكفر ـ و والله إنه لأمر ثقيل على نفسي جداً ـ لكنه الأحوط فيما أرى، لا سيما و أنني لم أجد حتى الآن دليلاً قاطعاً على كون السجود لغير الله لا على سبيل العبادة يكون كفراً، و الله أعلى و أعلم و رد العلم إليه أسلم.
و صل اللهم على عبدك و نبيك محمد و على آله و صحبه و سلم.
¥