تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

إلى ما يستوجب قيام رد فعل من هذا القبيل، لقد كان هذا التيار نتيجة لمحاولة عناصر معادية للفكر الإسلامي وللدولة الإسلامية قادته عناصر من الزنادقة وأتباع الديانات الوثنية؛ من أجل تقويض البناء الفكري والسياسي للدولة الإسلامية.

هذا عن البيان والعرفان… أما عن البرهان فيذكر المؤلف تبعاً لما يراه المستشرق كارل بروكلمان أن المأمون (198 - 218هـ) إنما أمر بترجمة الفلسفة اليونانية لمواجهة العرفان المانوي الغنوصي الذي اعتمده الشيعة والزنادقة لمواجهة الدولة الإسلامية، لقد كان الكندي (185 - 252هـ) هو أول فيلسوف عربي حيث أكد على أن المعرفة إنما تكون حسية أو عقلية أو إلهية أداتها الرسل المبلغة عن الله، وهو بذلك يرفض العرفان الشيعي الصوفي، ثم جاء بعده الفارابي (260 - 339هـ) الذي حاول (الجمع بين الحكيمين)، أرسطو وأفلاطون محاولاً (التوفيق) بين تيارات الفلسفة اليونانية المختلفة، متوصلاً بذلك إلى أن العرفان إنما هو ثمرة للبرهان.

لقد بقيت مدرسة بغداد كما يرى المؤلف من المأمون وحتى الخليفة القادر (381 - 422هـ) مركزاً علمياً مخلصاً لاستراتيجية المأمون الثقافية القائمة على الارتكاز على أرسطو ومنطقه وعلومه في الحرب ضد الإسماعيلية العرفانية الهرمسية، ثم تسلم بعد ذلك ابن رشد الراية عنهم، وهو المفكر الذي احتفظ بصورة فلسفة أرسطو نقية كما جاءت عنه، رافضاً إضافات الفارابي وابن سينا إلى هذه الفلسفة. هكذا تشكلت الدوائر الثلاث البيانية والعرفانية والبرهانية في الفكر الإسلامي، لكنها لم تدم مستقلة بعضها عن بعض طوال الوقت، لقد حصل تدريجياً تداخل بين هذه التيارات… فلقد حاول ابن سينا تأسيس (العرفان) على (البرهان)، وذلك بالبحث في الفلسفة عن أسانيد للرؤية الهرمسية للكون والإنسان وعلاقتهما بالإله.

كما حاول الغزالي تأسيس (البيان) على (العرفان)، وذلك بالتشكيك في كل قيمة للمعرفة الحسية والتجريبية والعقلية، متوصلاً بذلك إلى تفضيل طريقة (الكشف) والإلهام باعتبارها طريق اليقين الوحيد.

بينما حاول ابن حزم تأسيس (البيان) على (البرهان) وذلك برفض قياس الفقهاء التمثيلي، ومحاولة اعتقاد البرهان المنطقي الأرسطي المبني على مقدمتين ينتج عنهما نتيجة ضرورية يقينية، وتابعه على ذلك الشاطبي بعض المتابعة في محاولته لتأسيس فقه المقاصد.

أما ابن رشد، فقد سن محاولات الخلط بين هذه الحقول، ورأى أن الشريعة صنو الحكمة وأختها الرضيعة، وأن لا سبيل للبرهنة من أحدهما على الأخرى .. وهي نتيجة توصل إليها أبو سليمان المنطقي من قبل، لكن كان لابن رشد فضل بلورتها وتوضيحها.

المؤسف كما يرى الجابري أن محاولة ابن رشد جاءت متأخرة فلم تلق أذناً صاغية ممن جاء بعده من المفكرين، بل كان النصر (للعقل المستقيل) في الحركة الصوفية والشيعية، كما كان النصر حليفاً لاختلاط الأنهر عند المتكلمين الذي ظهر بظهور الرازي حيث قام تلميذه (الإيجي) بعد ذلك بوضع الصورة النهائية لعلم الكلام في كتابه (المواقف) حيث يختلط فيه (البيان) بـ (البرهان) بـ (العرفان) وبذلك ظهرت أزمة الأسس في الفكر الإسلامي، وتشقي الحقيقة ثم ساد بعد ذلك الجمود والتقليد، وتحريم الاجتهاد والنظر العقلي.

هذا عرض سريع لموضوع كتابي (بنية العقل العربي) و (تكوين العقل العربي) نأتي بعده إلى سؤال مهم: تُرى ما هي المدرسة التي يتبناها الجابري بين هذه المدارس المختلفة، والتي يبشر بها ويدعو إليها؟! ثم ما هو المقياس الذي اعتمده في قبول أو رفض هذه التيارات، وما هي الخلفيات الفكرية والاعتقادية التي كانت تحكم نظرته نحو مختلف المدارس الفكرية…؟!

قبل الشروع في الإجابة على هذه الأسئلة، لابد من الإشارة إلى ظاهرة لا تخفى على القارئ لمختلف الإصدارات التي كتبها الجابري؛ ألا وهي رغبته الدائمة في عدم الكشف عن توجهاته الفكرية بشكل سافر .. اتضح هذا جلياً في حواره مع (حسن حنفي) في كتاب (حوار المشرق والمغرب) حيث سود صفحات في بيان رغبة القراء في كشف القناع عن الخلفيات الأيديولوجية التي تحكم من يقرؤون له، ومع ذلك فلم يحدد توجهاته بوضوح .. !!

الذي يظهر لي أن حرص الكاتب على عدم إظهار توجهه الفكري يرجع إلى أحد سببين هما:

- إما أنه لا يزال في مرحلة التأمل والبحث والنظر، فلم يحدد بعد توجهاته الفكرية.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير