وذكر عن نفسه أنه غاص في بحار الفئات الأربع حتى سبر علومها، وأطلع على مكنونها، وتضلع منها إلى الغاية، ثم أخذ يبهرج الزائف ويزيل المتهالك، حتى خلص له طريق (التصوف) .. !
وحتى هذه الطريق التي سلكها، ونافح عنها، وألف في رسومها لم يجد بغيته فيها آخر حياته، فمال إلى طريقة أهل الحديث كما هو معروف، ومات وصحيح البخاري على صدره - يرحمه الله -.
ولأجل هذا التأرجح بين طرائق المتشرعين وجد العلماء في كتب الغزالي ما لايجوز اعتقاده، ولا يحل السكوت عنه، فتكلموا فيه وفي كتبه وحذروا منها، وانتشر هذا بين الناس؛ بَلْهَ العلماء، ومنهم بعض تلامذته ومعاصريه، "واشتد نكير علماء الإسلام لهذا الكلام، وتكلموا في أبي حامد وأمثاله بكلام معروف، كما تكلم فيه أصحاب أبي المعالي ك: أبي الحسن المرغيناني، وأبو الحسن بن سكر، وأبو عمرو بن الصلاح، وأبو زكريا ..
وكما تكلم فيه أبو بكر الطرطوشي، وأبو عبدالله المازري، وابن حمدين القرطبي - وصنف في ذلك - وأبو بكر بن العربي تلميذه حتى قال: "شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر".
وتكلم فيه أبو الوفاء بن عقيل، وأبو الفرج بن الجوزي، وأبو محمد المقدسي وغيرهم.
وكما تكلم فيه الكردري وغيره من أصحاب أبي حنيفة.
ومن أعظم ما تكلم أئمة المحققين لأجله ما وافق فيه الصابئة المتفلسفين، مع أنه بعد ذلك قد رد على الفلاسفة، وبين تهافتهم وكفرهم، وبين أن طريقتهم لا توصل إلى الحق، بل ورد - أيضاً - على المتكلمين، ورجح طريق الرياضة والتصوف، ثم لما لم يحصل له مطلوبه من هذه الطرق بقي من أهل الوقف، ومال إلى طريقة أهل الحديث، فمات وهو يشتغل بالبخاري ومسلم (4).
وكانت لأبي حامد الغزالي - رحمه الله - اليد الطولى في إدراج المنطق بعلوم المسلمين، وبقيت فيه عُلُقَه من علوم الأوائل لم يستطع أن يبرأ منها، بل ظلت مؤثرة عليه، وموجهة له، حتى أنها كانت تسوس تصوفه في آخر أطواره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (728ه) رحمه الله:
"وما زال نظَّار المسلمين يصنفون في الرد عليهم - أي الفلاسفة - في المنطق، ويبينون خطاهم، ولم يكن أحد من نظار المسلمين يلتفت إلى طريقهم، بل الأشعرية، والمعتزلة، والكرامية، والشيعة، وسائر الطوائف من أهل النظر كانوا يعيبونها، ويبينون فسادها، وأول من خلط منطقهم بأصول المسلمين: أبو حامدالغزالي، وتكلم فيه العلماء بما يطول ذكره" (5).
ومع أن الغزالي قال بوجوب تكفير المتفلسفة الإسلاميين ك: ابن سينا، والفارابي، وأمثالهما (6)، إلا أنه هو نفسه رضع من كلام ابن سينا حتى قيل: "أمرضه الشفاء".
وأمر تأثره بالفلاسفة، وديمومة ذلك معه أمرٌ لا ينكره إلا مكابر، وقد أثبته له جماعات من العلماء، منهم: الطرطوشي، والمازري، وابن العربي، وابن الجوزي، وابن الصلاح، وشيخ الإسلام، والذهبي، وابن كثير ... وغيرهم خلائق.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وكلامه برزخ بين المسلمين وبين الفلاسفة، ففيه فلسفةٌ مشوبةٌ بإسلامٍ، وإسلامٌ مشوبٌ بفلسفةٍ، وكان يعظم الزهد جداً، ويعتني به أعظم من اعتنائه بالتوحيد الذي جاءت به الرسل، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه، ولقد ذاكرني مرةً شيخٌ جليلٌ له معرفة وسلوك وعلم في هذا، فقال: كلام أبي حامد يشوقك، فتسير خلفه منزلاً بعد منزل، فإذا هو ينتهي إلى لا شيء ..
والذين سلكوا خلف أبي حامد أو ضاهوه في السلوك كأبن سبعين وابن عربي، صرحوا بحقيقة ما وصلوا إليه، وهو أن الوجود واحد، وعلموا أن أبا حامد لا يوافقهم على هذا، فاستضعفوه ونسبوه إلى أنه مقيدٌ بالشرع والعقل.
وأبو حامد بين علماء المسلمين وبين علماء الفلاسفة .. علماء المسلمين يذمونه على ما شارك فيه الفلاسفة مما يخالف دين الإسلام، والفلاسفة يعيبونه على ما بقي معه من الإسلام، وعلى كونه لم ينسلخ منه بالكلية إلى قول الفلاسفة.
ولهذا كان الحفيد ابن رشد ينشد فيه:
يوماً يمانٍ إذا ما جئت ذا يمن ** وإن لقيت معدياًّ فعدناني!
وأبو نصر القشيري وغيره ذموه على الفسلفة، وأنشدوا فيه أبياتاً معروفة يقولون فيها:
برئنا إلى الله من معشر ** بهم مرض من كتاب (الشفا)
وكم قلت: يا قوم أنتم على ** شفا حفرة مالها من شفا
فلما استهانوا بتعريفنا ** رجعنا إلى الله حتى كفا
فماتوا على دين رسطالس ** وعشنا على سنة المصطفى (7)
¥