(إماتة علوم الدين) وقام ابن عقيل أعظم قيام في الذم والتشنيع، وزيف ما فيه من التموية والترقيع، وجزم بأن كثيراً من مباحثه زندقة خالصة لا يقبل لصاحبها صرف ولا عدل. وكلام أهل العلم معروف في هذا، لا يشكل إلا على من هو مزجي البضاعة، أجنبي من تلك البضاعة ... الخ" (12).
8 - ومن ذلك ما حكاه العلامة العراقي أبو المعالي محمود شكري الألوسي (1342ه) من الحوار الذي دار بينه وبين رجل مغرم بقراءة (الإحياء) وإقرائه، فقال: "الإمام أبو حامد الغزالي اعترض على كتبه كثير من العلماء الربانيين ... ومن العجب أن بعض الجهلة ممن يدعي العلم والصلاح، وهو عار عنهما، وقد تزيا بزي أهلهما، قد راج سوقه على العوام، بما يقصه عليهم في الوعظ من الأكاذيب والأوهام و قد ذكر (إحياء العلوم) وشرع يمدحه بأعظم المدائح، ويقرظه بكل ما خطر له من الثناء، فقلت له: إنه اشتمل على أحاديث موضوعة، ومسائل فلسفية خارجة عن الشريعة، وآراء محضة مخالفة للسنة النبوية، وبناء على ذلك أن أهل العلم الموثوق بعلمهم لا يقيمون لهذا الكتاب وزناً، حتى أن بعضهم ألف كتاباً في بيان حال ما فيه من الأحاديث، فنظر إلي شزراً وقال: كيف تقول هذا الكلام وقد شرحه العلامة الزبيدي، وخرج أحاديثه، وبين أسراره؟! فقلت له: إن الزبيدي ليس من أهل هذا الفن، ولا هو من رجال هذا الميدان، وإنما له بعض الإطلاع على اللغة، وبعض العلوم العربية، وكلام مثله في باب الجرح والتعديل غير ملتفت إليه، وكان من غلاة القبوريين، والدعاة لمبتداعاتهم، فلما سمع ذلك أعراض ونأى بجانبه، ولم يلتفت إلى ما قلته، والكلام الحق اليوم ثقيل على الأسماع، لاسيما على أهل الزيغ والابتداع" (13).
والنقد لكتاب (الإحياء) طويل الذيل، فمن رامه طلبه من مظانه، والله المستعان.
دفاع ميت!
قد يقول قائل: ما في (الإحياء) من شطحات ومساوئ إنما نقلها عن غيره؟!
قلنا: وكذلك ما فيه من خير وإحسان ومعروف إنما نقله عن غيره، وليس له فيه فضل سوى سبك الكلام! فلماذا يمدح بما ذكره في (الإحياء) من الخير، ويغض الطرف عما فيه من البلاء؟ مع أن الإنسان إنما يُثَّرب عليه إذا نقل عن الآخرين الشر والسوء والفتنة.
وكون الغزالي - يرحمه الله - ينقل كلام غيره، هذا لا يخرجه من العهدة، ولا يبرئ ساحته، لأن الناقل لكلام غيره لا يخلو:
1 - إما أن ينقله مرتضياً له، ومؤيداً لما فيه.
وشاهد رضاه وتأييده أن ينتصر له، ويدافع عنه، ويشرحه ويوضحه، ويزيده بياناً وتأكيداً، ويستنبط منه، وينبسط إليه، ويبني عليه قضايا أخر، ونحو ذلك مما يدل على احتفائه بما نقله.
2 - وإما أن ينقله غير راضٍ عنه، ولا مؤيد له.
وشاهد ذلك أن يأخذ في الرد عليه، وبيان عواره، وفساده، ونحو ذلك مما يدل على رفضه ونفرته لما نقله.
أما أن ينقل كلاماً ويسكت عنه، فالأصل أن الكلام المنكر الممتليء كفراً وزندقة، أو شراً ومفسدة، لا يجوز إظهاره للناس، ولا ترويجه بينهم، بنقله في الدفاتر، أو حكايته على رؤوس الاشهاد، فيغتروا بهذا النقل، فيثني على القالة لأن فلاناً نقلها ساكتاً عنها، ولم يتعقبها بشيء، ولو كان فيها محظور لما تركها على علاتها .. هكذا يستدل الناس.
والواجب إنكار المنكر، وبيان حقيقته للأمة، وتحذير الناس منه وتنفيرهم عنه، وأن يخمد في مدفنه، ويهمل في مكمنه، عسى الله أن يذهب القالة كما أذهب قائلها، فلا يدرى طريقها بعد ذلك.
ثم هذا دفاع بارد جداً! لأن أبا حامد الغزالي - رحمه الله - ليس بالغافل ولا المستغفل بحيث تمر عليه عبارات القوم دون تقليب لمعناها، ومعرفة لفحواها، بل له بها أنس وطرب، ولا يذكرها إلا على سبيل الاستئساس، بَلْهَ الاستئناس.
والذي يدل على ارتضاه لما نقله - وهو خريت الجماعة - وتحققه مما قاله، ونهوضه به، أمران:
الأول: أنه قعد قاعدة عامة لكل من ينظر في عبارات القوم، فقال: "إذا عرض لك من كلام عالم إشكال يؤذن في الظاهر بمحال أو اختلال، فخذ ما ظهر لك علمه، ودع ما اعتاص عليك فهمه، وَكِل العلم فيه إلى الله عز وجل" (14).
فانظر كيف يفضي القداسة على مقولات القوم، بحيث إن الخطأ لا يعتريها، وإنما يعتري فهم السامع وذهن القارئ، وأما هي فحاشاها، لأن لها سراً!!
¥