وقد تورط ابن رشد في هذا الاعتقاد في هذه المسألة كما ترى وكما سيتضح فيما سيأتي من كلامه. ثم أخذ ابن رشد يخوض في مسألة طالما خاض فيها علماء الكلام، وهي هل الصفات زائدة على الذات أم هي عين الذات، إذ يقرر أن ذات الله ووجوده ووحدانيته كلمات يختلف معناها، ولكن دلالتها فيما يتعلق بالله واحدة. فالله قديم لأن الواحد بما هو واحد سابق على كل مركب، وهذا الأول القديم بذاته باق مطلقاُ وصفات الله من الحكمة والقدرة والوحدانية وغيرها ليست زائدة على الذات.
وتحقيق هذا المقام يتطلب نوعاً من التفصيل حتى يتضح الحق بإذن الله.
فنقول: يمكن أن يقال: الصفة عين الذات ويصح هذا الحكم, بمعنى أن الصفات لا تنفك عن الذات إذ لا نستطيع أن نتصور علماً بغير عالم, وقدرة قائمة وحدها بغير قادر, أو إرادة قائمة بنفسها دون مريد، وهكذا وبهذا الاعتبار نقول: الصفات عين الذات.
كما أنه من الممكن أن نقول: الصفة غير الذات فيصح الحكم أيضاً باعتبار آخر، وهو أن للصفة معنى وللذات معنى مغاير لمعنى الصفة، وبهذا الاعتبار أن الصفة غير الذات قطعاً، وما قيل في هذه المسألة يقال في مسألة هل الاسم عين المسمى أن غير المسمى؟. وعلى هذا المعنى يخرج كلام أبي الوليد, إذ يقول: إن صفات الله ليست زائدة على الذات"والله أعلم.
ومثل هذا البحث يعده أبو الوليد إذا صدر من غيره بدعة محدثة غير معروفة عند السلف، إذ لا يكادون يزيدون على ما دل عليه الكتاب والسنة، بل يؤمنون بأن الله موصوف بصفات الكمال كالعلم والقدرة والرحمة والاستواء، وغير ذلك من الصفات ذاتية أو فعلية، ولا يسألون هل هي عين الذات أو غير الذات.
وهي الطريقة السليمة، وتدل على عمق علم السلف ودقتهم وبعدهم عن التكلف والقول على الله بغير علم، والمعروف عنهم أنهم لا يتجاوزون الكتاب العزيز والسنة المطهرة في المطالب الإلهية خشية القول على الله بغير علم, والخوض في حقائق ذاته وصفاته وأسمائه وتسليط الوهم والخيال عليها فأمر جد خطير، إذ لا يصف الله أعلم من الله، ولا يصفه من خلقه أعلم من رسوله عليه الصلاة والسلام الذي أذن له أن يصفه وأمره أن يبلغ عنه ما نزل عليه، ومن جملة ما نزل عليه صفات الله عز وجل، ومن بعدهم عن التكليف أنهم لا يتطلعون إلى إدراك حقائق الصفات والأسماء إيماناً منهم بأن المخلوق لا يحيط بالخالق، علماً مهما أوتي من علم وذكاء لأن علم المخلوق محدود {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) , ولا يقاس بغيره بأي نوع من أنواع القياس، إذ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى: 11)، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} (مريم: 65)، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}، والملاحظ أن ابن رشد قد يتسامح مع نفسه ما لا يتسامح مع غيره كما رأينا فيما سبق، فيطلق لنفسه حرية الخوض والتأويل بينما هو يعيب كل ذلك لو صدر من غيره، ويعده بدعة محدثة.
ومن الإنصاف - والإنصاف من الإيمان - أن يعد هذا التصرف بدعة في حق كل أحد حتى في حق أبي الوليد، وعلى العموم يلاحظ الدارس لكتب ابن رشد أنه يورد من الأدلة العقلية والنقلية في حواره ونقاشه في الإلهيات ما يدل على اطلاعه الواسع ومقدرته الرائعة وذكائه الخارق.
العلم عند ابن رشد
يقول أبو الوليد في بعض كتبه: "أما الأوصاف التي صرح بها الكتاب العزيز التي وصف الصانع الموجد للعالم بها، فهي أوصاف الكمال الموجودة للإنسان، إلى أن قال: أما العلم فقد نبه الكتاب العزيز على وجه الدلالة عليه في قوله تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك:14) , وهي أن المصنوعات تدل - من جهة الترتيب الذي في أجزائه، ومن جهة كونها صنع بعضها من أجل بعض آخر، ومن جهة موافقتها جميعها للمنفعة المقصودة بذلك المصنوع انه لم يحدث عن صانع هو (طبيعة) كما لم يحدث (صدفة) وإنما حدث عن صانع رتب ما قبل الغاية قبل الغاية فوجب أن يكون عالماً به، مثال ذلك:
إن الإنسان إذا نظر إلى البيت فأدرك أن الأساس إنما صنع من أجل الحائط، وأن الحائط إنما أقيم من أجل السقف، يتيقن أن البيت إنما وجد عن عالم بصناعة البناء.
¥