وإذا كنا نؤمن بأنه عليه الصلاة والسلام بلّغ رسالة ربه كاملة قبل أن يكتم شيئاً منها في أصول الدين وفروعه، ونؤمن ثانياً بأن الصحابة فهموا ما بلّغهم الرسول عليه الصلاة والسلام فهماً صحيحاً وشاملاً وتحمّلوا أمانة التبليغ لمن بعدهم فبلغوهم فعلاً قبل أن يكتموا شيئاً مما بُلِّغُوا، إذا كنا نؤمن إيماناً كهذا يلزمنا أن نعتقد أن كل خير في اتباعهم فيما كانوا عليه لأنهم على هدى وعلى صراط مستقيم ومخالفتهم تعد إحداث بدعة في الدين مع ادعاء أن الدين لم يتم بعد بل هو في حاجة إلى زيادة أو تعديل أو تحسين، وكل ذلك تحدٍ سافر لشهادة الله تعالى لنبيه وأتباعه أنه أكمل لهم الدين وأتم عليهم نعمة الإسلام إذ يقول الله جل من قائل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ, وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي, وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) وقد نزلت هذه الشهادة من السماء في آخر حياته عليه الصلاة والسلام، وكان نزولها في حجة الوداع على رؤوس الأشهاد في أعظم تجمع حصل في تاريخ الإسلام.
وكل الذي أقصده بهذا الاستطراد، أن الصواب في هذه المسألة وغيرها من مسائل الدين بما في ذلك البحث الذي حول القرآن هو ما كان عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وكل مل خالف ما كانوا عليه فهو باطل ضرورة (إن الحق واحد لا يتعدد) هذه هي الطوائف الثلاثة في هذه المسألة، ولا نعلم لها رابعة - فيما نعلم - ولكننا فوجئنا في أثناء دراستنا لكتب ابن رشد بقول غريب لم يسبق إليه، وذلك في تعريفه للكلام - وقد ذكرناه فيما تقدم - وقد انتهى كلامه إلى القول: "بأن حروف القرآن التي في المصحف إنما هي من صنعنا نحن بإذن الله، وإنما وجب لها التعظيم لأنها دالة على المخلوق لله، وعلى المعنى الذي ليس بمخلوق" [9].
مناقشة ابن رشد في رأيه
يمكن أن نوجز فلسفة ابن رشد في هذه المسألة في نقطتين اثنتين:
1 – تعريفه للكلام بأنه فعل يفعله المتكلم إلى آخر كلامه ..
2 – الادعاء بأن الحروف التي في المصحف صنفان، صنف مصنوع لنا، وصنف مخلوق لله, وأن الصنف الذي من صنعنا يدل على اللفظ المخلوق وعلى المعنى غير المخلوق.
تعليقي على النقطة الأولى: بأنه كلام لا معنى له، بل تأباه اللغة العربية ويأباه الواقع إذ لا يعرف في اللغة العربية: أن الكلام هو الفعل، فيقول النحاة عندما يعرفون الكلام: (هو اللفظ المركب المفيد بالوضع)، وذلك يعني أن الكلام هو ذلك الملفوظ المنطوق، وفي الواقع أن الناس يفرقون بين الكلام والفعل طبعاً، وأكتفي بهذا المقدار في هذه النقطة لوضوحها فيما أحسب.
وأما النقطة الثانية: فادعاء ابن رشد صنفين من الحروف للقرآن فكلام خال وفارغ عن المعنى في نظرنا، وعلى أي حال فقد وقع ابن رشد في البدعة التي كان يشنعها على أهل الكلام، ولم يقف مع ظاهر الشرع كما يدعو إليه وكما هو المتحتم على كل مسلم وبعد:
فكم كان جديراً بابن رشد أن يطبق القاعدة التي يذكرها دائماً في بحثه وهي: (لا يحق للباحث في مسائل الدين أن يطبق الاعتبارات الإنسانية على الأمور الإلهية)، ولكنه خالفها ولم يلتزم بها - وللأسف - والملاحظ أن ابن رشد قد خالف علماء الكلام في مواقفهم من صفات الله، وأنكر عليهم تأويلهم وشدد الإنكار عليهم، وكان يرى أن تبقى نصوص الصفات على ظاهرها - كما يليق بالله - ويدعو إلى ذلك بكل صراحة، وهي دعوى حق طبعاً، ولكنه قلب ظهر المجن - كما يقولون - لهذه الطريقة في صفة الكلام، وانحاز إلى الطريقة الأشعرية وهي القول بخلق القرآن مع إثبات الكلام النفسي بل زاد عليهم حيث ادعى أن للقرآن حرفين، حرف مخلوق لله وحرف مصنوع للعباد دال على الحرف المخلوق، وهو موقف - كما ترى - في غاية الغرابة، بل انزلاقة خطيرة يخشى منها على إيمان صاحبها، والله المستعان.
موقف ابن رشد من مثبتة الصفات
جرت عادة معطلة الصفات الذين تعودوا أن يسلطوا ألواناً من التأويل على صفات الله تعالى، إذا خالفت المعقول وأوهمت التشبيه - في زعمهم - جرت عادة هؤلاء بأن يلقبوا مثبتة الصفات بالألقاب التالية:
أ – المشبهة.
ب – المجسمة.
جـ – الحشوية.
¥