تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وفي زعم هؤلاء أن الإثبات يستلزم التشبيه والتجسيم، وهو زعم فاسد لا يعتمد على قاعدة علمية ونظر سليم، وإنما هو زعم يتوارثه أهل الكلام بعضهم من بعض مبعثه إما الجهل، أو هوى في النفس، وإلا فإن التشبيه أو التجسيم أمر زائد على الإثبات فلا يلزم من إثبات العلم لله مثلاً ـ تشبيه الله بخلقه في علمه، ضرورة أن علم الخالق ليس كعلم المخلوق، لأن علم المخلوق يناسب حال المخلوق محدث مثله، محدود لا يحيط بالمعلومات، ومعرض للنسيان والغفلة والذهول، ثم إنه غير باق، ضرورة زوال الصفة بزوال الموصوف، وهذه الأعراض التي ذكرناها لعلم المخلوق ينزه عنها علم الخالق لأنه علم يليق به تعالى قديم قدم ذاته، محيط بكل شيء لا يلحقه نسيان أو ذهول، أو غفلة وهو باق بقاء الذات العلية، فإثبات صفات الله تعالى عند المثبتة على غرار قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى: 11)، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} (الإخلاص: 4)، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} (طه: 110)، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} (مريم: 65) , وما قيل في صفة العلم يقال في سائر الصفات الذاتية والفعلية، هكذا يثبت لدى المصنف أن الإثبات شيء والتشبيه شيء آخر والله ولي التوفيق.

وقد استخدم أبو الوليد بعض تلك الألقاب التي تقدم ذكرها في حق المثبتة جرياً على عادة القوم، وكان المتوقع من أبي الوليد أن يقف موقف البصير المنصف فيضع الأمور في نصابها، ويلحق الألقاب بأهلها، فيقول لمن أثبت صفات الله كما يليق به أنه مثبت، ولمن أول وحرف أنه مؤول، ولمن شبه صفات الله بصفات خلقه أنه مشبه.

وقد أثبتنا - فيما سبق - أن المثبتة ليسوا بمشبهين ولا مجسمين، بل طريقتهم وسط بين التشبيه والتعطيل، كما وضحنا آنفاً، وإذا كانت المشبهة قد غلت في إثبات صفات الله فأثبتوها معتقدين أنها صفات كصفات المخلوقين، بدعوى أنهم لا يعقلون من صفات الله إلا كما يعقلون صفات المخلوقين، فقدرة الله عندهم كقدرة المخلوقين, وإرادته كإرادتهم, واستواؤه كاستوائهم، كذلك محبته ورضاؤه، غلت المعطلة في التنزيه من الطرف الآخر فنفت وعطلت صفات الله تعالى أو بعضها، بدعوى التنزيه معتقدين أن إثبات الصفات يؤدي إلى التشبيه فأهل السنة والجماعة فقد هداهم الله إلى سواء السبيل ووفقهم فسلكوا مسلكاً وسطاً، فأثبتوا ونزهوا - أثبتوا لله ما أثبت لنفسه أو أثبته له رسوله من صفات الكمال - وجميع صفاته كمال - إثباتاً بلا تشبيه أو تمثيل في ضوء قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.

وقد أثنى أبو الوليد على هذه الطريقة في غير ما موضع في بعض كتبه [10] ولكنه يراها أنها إنما تناسب الجمهور فقط دون العلماء فإنهم لا يقفون عندها، بل عليهم أن يغوصوا في بحار الفلسفة، فيكشفوا حقائق لا يدركها الجمهور، مع التكتم [11] الشديد وعدم التصريح بتلك الحقائق أمام الجمهور، فلو التزم أبو الوليد طريقة معينة في إصدار الأحكام على الناس لسهل علينا أن نصغي إلى أحكامه ثم ننقاشه، ولكنه صعب المنال وكثير التقلب, فبينما تراه يتحدث في باب الأسماء والصفات حديث سلفي مثبت الصفات واقف على ظاهر الشريعة فإذا هو يخطب على منصة أهل الكلام فيؤول وينفر عن الإثبات، ولو عرّجت على نادي الفلاسفة لوجدته في طليعة الحكماء الذين يعيشون في مخيم الغموض ويضربون في بيداء الأوهام والخيال، ولا تكاد تفقه كثيراً مما يقولون، ولو مررت بمجموعة الفقهاء لرأيته في وسطهم يقارع الحجج بالحجج فيؤصل ويفرع، وربما دخل مجالس المحدثين ليتشبه بهم، على حد قول القائل:

تشبهوا إن لم تكونوا مثلهم

فإن التشبه بالرجال فلاح

والصفة البارزة في ابن رشد أنه يرى نفسه أنه محلق في سماء الفلسفة مع مجموعة الحكماء تاركاً الجمهور في سذاجتهم - فيما يظن -.

ابن رشد يثبت المعاد بالأدلة العقلية والنقلية

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير