وإذا كان هذا كله كما وصفنا فقد تبين لك كيف لنا اكتساب، وكيف جميع مكتسباتنا بقضاء وقدر سابق, وهذا الجمع هو الذي قصده الشرع بتلك الآيات العامة والأحاديث التي يظن بها التعارض، وهي إذا خصصت عمومتها بهذا المعنى، انتفى عنها التعارض, وبهذا أيضاً تنحل جميع الشكوك التي قيلت في ذلك، أعني الحجج المتعارضة العقلية أعني أن كون الأشياء الموجودة عن إرادتنا يتم وجودها بالأمرين معاً, أعني بإرادتنا وبالأسباب التي من خارج، فإذا نسبت الأفعال إلى واحد من هذين على الإطلاق لحقت الشكوك المتقدمة.
وابن رشد - كما ترى - يدندن حول مذهب أهل السنة والجماعة في هذا المسألة وهو معافى من داء الجبرية والقدرية ومن كسب الأشعري, بل هو يثبت للعبد قدرة وإرادة، وفي الوقت نفسه يقرر أن الأشياء توجد بقضاء وقدر سابق، بل يقرر أنه لا بد من اجتماع الأمرين معاً القضاء والقدر ويسميها (السبب الخارجي) وإرادة العبد وهي السبب الداخلي وتوجد الأشياء بإذن الله تعالى، بتوفر الأمرين معاً.
وذلك يعني أن العبد يعمل بإرادته وقدرته واختياره، ولكنه هو وإرادته وقدرته والآلة التي استعملها بل وعقله كل ذلك مخلوق لله {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ} (فاطر: 3) , فتضاف الأعمال إلى العبد حقيقة إضافة المسبب إلى السبب لأن العبد بإرادته وقدرته هو سبب وجود تلك الأعمال، وقد جعل الله لكل شيء سبباً، فهي تضاف إلى الله إضافة المخلوق إلى الخالق, هذه هي طريقة أهل السنة والجماعة كما تقدم، فليهنأ ابن رشد بهذا التوفيق في هذه المسألة العويصة كما وصفها هو نفسه في كتابه منهاج الأدلة في عقائد الملل.
وبعد هذا الملخص والتعليق عليه يحسن بنا أن نسرد بعض الآيات القرآنية التي أشار إليها ابن رشد لنرى كيف تتفق ولا تختلف وبالتوفيق بينهما تزول جميع الشكوك إن شاء الله.
المجموعة الأولى من الآيات المشار إليها:
أ – {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29)، {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} (التكوير: 28)، {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} (البقرة: 281)، {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: 286)، {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} (آل عمران: 182).
هذه المجموعة وما في معناها من نصوص الكتاب والسنة تفيد أن أفعال الإنسان تقع بإرادته ومشيئته واختياره.
ومما يؤيد هذا المعنى أن المجنون لا يسأل عن أفعاله بإجماع؛ لأنها لم تقع منه بإرادته أو بإرادة معتبرة.
ب – المجموعة الثانية: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} (يس:42)، {وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} (النحل: 80)، {وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (الصافات: 96).
تفيد هذه المجموعة وما شاكلها من نصوص الوحي أن الإنسان وإن كان فاعلاً لأفعاله حقيقة لا مجازاً وله إرادة ومشيئة ولكن إرادته ومشيئته مخلوقتان لله، وهما سببان فقط لإيجاد فعل الإنسان، والله خلق السبب والمسبب معاً، وكون الإنسان يفعل بإرادته، لا يخرج فعله من عموم مخلوقات الله فالسفينة يصنعها الإنسان بيده، ولكن الله خالقه وخالق يده وإرادته، وكذلك البيوت والجلود المذكورات في المجموعة الثانية والله ولي التوفيق.
هكذا تتفق الآيات التي ظاهرها التعارض, ولا تعارض في واقع الأمر إذ دلت المجموعة الأولى أن للإنسان تدخلاً في أعماله بحيث يثاب على الحسنة ويعاقب على السيئة، فتضاف إليه أعمال حقيقة.
ودلت المجموعة الثانية أن الإنسان وأعماله مخلوقات لله تعالى وهو الخالق وحده سبحانه.
سر القدر
فطالما خضنا في هذا المبحث الخطير فلا بد أن نقول شيئاً في محاولة الإجابة على سؤال خطير يتردد في الأذهان، وربما ظهر على بعض الألسنة أحياناً والسؤال يتكون من فقرتين، ونص السؤال هكذا:
إذا شاء الله من الإنسان المعصية ولم يشأ منه الطاعة فلم يحاسبه على ما لم يشأ منه؟
ولم لم يشأ منه الطاعة كما شاءها من غيره؟
¥