الجواب على الفقرة الأولى من السؤال: سبق أن تحدثنا أن في الأصول القطعية عند أهل السنة أن الهداية والضلال, والطاعة والمعصية بمشيئة الله وأن الإنسان سبب في وقوعها، ومسئوليته عن أفعاله أصل قطعي آخر من هذه الزاوية، فالقاعدة التي يتفق عليها العقلاء أن القطعيات لا تتناقص في نفسها، وإن بدت لنا متناقضة لقصور إدراكنا.
فحسبنا أن نقف عند هذه القطعيات ونؤمن بها جميعاً، ولا نرد منها شيئاً ولو لم نحط بها علماً، لأن مسألة القضاء والقدر لها تعلق بصفات الله تعالى: كعلمه وحكمته وإرادته، وحيث أننا نعجز عن الإحاطة بصفات الله تعالى, فكذلك نعجز عن الإحاطة بسر القدر، وسر القدر هو أن الله تعالى أضل وهدى وأسعد وأشقى، وأمات وأحيا غير ذلك كل ذلك لحكمة يعلمها ولا نعلمها، ها هنا السر!!!
وهو العليم الحكيم، فسبحان الذي أحاط كل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً.
ولا يضير المرء في إيمانه عجزه عن الإحاطة بسر القدر لأن ذلك ليس بمستطاع ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولكن الذي يضيره أن يبني على عجزه أحكاماً ويتصرف على غير هدى. من ذلك رد بعض الأصول القطعية في القدر، وضرب النصوص بعضها ببعض.
وللجواب على الفقرة الثانية في السؤال نورد قول علي رضي الله عنه: "القدر سر الله فلا نكشفه"ومن سر القدر عجزنا عن جواب: (لم شاء الله الطاعة من زيد ووفقه، بينما لم يشأ من عمرو ولم يوفقه؟) , بل الجواب الذي ليس بعده جواب قوله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الانبياء: 23)، ومما لا نزاع فيه بين العقلاء أن المالك له أن يتصرف في ملكه كيف يشاء، ولا يلزم ليكون تصرفه سليماً أن يدرك غيره الحكمة الباعثة, والعلة في تصرفاته, وليس لأحد حق الاعتراض عليه في تصرفه، إذا لم يعلم السر في أفعاله.
فلو رأينا صاحب بستان يحتوي بستانه على أنواع من الأشجار لو رأيناه يقطع هذه الشجرة ويترك تلك ويهذب هذه وينظمها ويهمل تلك دون تهذيب أو إصلاح، فهل لأحد حق الاعتراض على هذه الأعمال المختلفة؟ فالجواب: لا, طبعا؛. لأننا لا ندري ما هو الباعث له على ما فعل أو ترك، هذا هو معنى قول علي رضي الله عنه: "القدر سر الله فلا نكشفه"أي فلا نحاول كشفه لندرك حقيقة ذلك السر المكتوم لأنه تكلف بلا نتيجة ومن حاول إدراك غير المستطاع نتيجة محاولته:
كناطح صخرة يوماً ليوهنها
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
من ثمرات الإيمان بالقدر
صاحب الإيمان الصحيح بالقدر يباشر الأسباب المباحة بيده، ويبذل معه في الأخذ بالأسباب ولا يعجز ولا يتواكل ولكنه يعتمد على الله وحده في نجاح تلك الأسباب المبذولة لا على الأسباب ذاتها، ولقد كان كذلك سيد المرسلين وإمام المتوكلين محمد عليه الصلاة والسلام، فقد اختفى عليه الصلاة والسلام في الغار يوم الهجرة، وهذا منه عليه الصلاة والسلام يعتبر تعليماً للأمة في الأخذ بالأسباب ومباشرتها, وقد فعل ذلك في سبيل التخلص من شر المشركين ولكنه لم يكن اعتماده في الخلاص على السبب نفسه، وإنما كان اعتماده على الله العلي القدير، قال تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} (التوبة: 40) , وذلك يعني أن ثقته كانت في الله واطمئنانه وسكينته بسبب تلك المعية الخاصة، إلا أنه لم يهمل السبب بناء على الثقة والاعتماد الصادق على الله، وقد رأيناه عليه الصلاة والسلام مرة أخرى في معركة (بدر) يباشر السبب, إذ رأيناه ينظم الجيش كسبب مادي لا بد من مباشرته، ثم يرجع إلى العريش الذي ضرب له في أرض المعركة فيدعو الله ويلح في الدعاء ويكثر فيطلب النصر من الله، وكان عليه الصلاة والسلام يحث أصحابه على البيع والشراء، وكان من أصحابه المزارعون والتجار الذين يزاولون البيع والشراء.
هذا هو المفهوم الصحيح للتوكل. وهو ثمرة من ثمرات الإيمان الصحيح بالقدر {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (يس: 83) ..
خاتمة
¥