تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولما غلا الغلاة ومرق المارقون وتذرع بفعلهم المنافقون أوقف كلاً منهم عند حده ولم يرض أن تبغي طائفة على طائفة عاملاً بقوله تعالى (ولايجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا) فعدل وأنصف مع الجميع فكان له من الرفعة ماكان وإني أشهد شهادة لله لقد كان درسه في جدة في شرح العقيدة الطحاوية أشبه بروضة غناء وحديقة وارفة الأرجاء طيبة الأنداء ترى أصحاب الهمم والأقلام حوله ينهلون من معينه الرقراق وهو يتدفق كالعافية تسري في بدن المريض فيجد لها لذة ونشوة وطرباً.

كم علَّمنا من مسألة وأخرجنا من معضلة، فتارة نحن معه في مسائل الإيمان والكفر وضوابطهما عند السلف وقد أخذ منا ستة أشهر في هذه المسائل وحدها كأجمل مايكون.

لقد عرَّفنا عن أهل الضلال والانحراف فنحن معه في جدالٍ عن المعتزلة والة والقول بخلق القرآن أو المنزلة بين المنزلتين أو إنكار الصفات أو الأسماء حتى إذا أمضى معنا شطراً عاد فنظر إلى الأشاعرة وعقائدهم والخوارج ونحلهم ولعمر الله ما إن تقضت وتصرمت حبال تلك الإيام حتى وصل إلى التوبة والإحسان من شر الطحاوية فكان شيئاً آخر من الزهد والورع ودقائق العبارات والإشارات ولقد رأيته بعد المغرب يحمل هم الأمة فتارة مع البدع والمنكرات وأخرى مع الصحف والمجلات لم يكن هو مجموعة من الناس بل كان أمة لوحدة قام بحمل يعجز عنه المئات وكيف لا أحزن على مثله في زمن كثر خبثه.

ولقد رأيت المئات من البشر يتدفقون على منزله في الثاني عشر من ربيع الأول لعام 1420هـ وهو اليوم الذي خرج فيه من السجن بعد خمس سنوات قضاها فيه فوالله إنه لذاك الرجل الذي دخل كأنما أدخل إلى محل يصهره مثل الذهب فخرج صافياً نقياً، هكذا حسبته والله حسيبه.

كلما جلست إليه حدثني عن البدع والمحدثات وكلما ظننت أنني سبقته بمعرفة نحلة وجدت أنني في أول الطريق بل حتى غرائب الكتب والمخطوطات كان عجيباً فيها فقد سألته مرة عن مخطوطة عندي بعنوان مسائل الامتحان للشيرازي وذكرت له أنني سألت بعض كبار العلماء المتخصصين فلم يعرفوا أن أحداً تكلم عليها فقال لي على البديهة أنها سيئة وخلاف منهج السلف ولكني لم أطلع عليها وقد ذمها ابن تيمية فقلت متلهثاً وأين ذمها؟ فقال في المجلد الرابع من الفتاوي وهذا بعد خروجه من السجن بشهرين فقط ونحن في جبال السراة، فلما عدت للموضع وافق الخبر الخبر ولقد صاحبت ذات مرة رجلاً متخصصاً في الصوفية ويحضر رسالة في التصوف وهو بحقٍ بحثا مطلع إلا أنه مبغض للشيخ سفر ومعاد له لأنه في نظره لايعرف الاعتقاد وقد أخذته بدون أن يشعر أو يدري فلما تواجه مع الشيخ سأله عن الصوفية وإذا بالبحر يتدفق فتحمس للسؤال عن بعض المراجع النادرة والشخصيات العابرة التي واجهه صعوبة في البحث عنها فكان جوابه أسرع في تفكيره وصوابه أكثر مما دار في خلد صاحبنا المبغض للشيخ فخرجنا بعد فوائد ومسائل فقال صاحبي غشنى فلان غشني فلان يعني الذي قدح في الشيخ وغرر بي هذا الشخص.

ولو تتبعت ماحصل في المجالس من العجائب والغرائب والفوائد لكانت مجلدات حافلة بما يرفع رؤوس أهل السنة عالياً.

ولا زلت أذكر أنني حاولت معه جاهداً أن أكتب له ترجمة فأبى وامتنع حتى إذا رأى طليعة لترجمته في إحدى المواقع كنت قد كتبتها قال لي رجاءً لاتكتب عني فأنا لا أساوي شيء، اكتب عن العظام الكبار كالأنبياء والصحابة والتابعين من نحن حتى تكتب عنا؟

ولقد رأيته في يوم الأحد الموافق للسابع والعشرين من الشهر السادس من عام 1411هـ وقد كان يوماً مطيراً يأتي متأخراً عن درسه المعتاد الذي يكون قبل المغرب بساعة فجاءنا بعد المغرب مباشرة وأخبرنا بأنه منع من الدروس والمحاضرات ثم أخذ يطلب منا وبإلحاح قوي أن نواصل طلب العلم وأن نستمر فيه بالقراءة على أهل العلم وأيضاً أوصى الطلاب بالهدوء وعدم الإثارة كل هذا والطلاب والله في فزع وحيرة وغم وهم ولقد رأيت الدموع تتحدر من عيني كثير منهم لفراق دروسه.

فهو غاية في التواضع والأدب وآية في الحفظ والعلم نادرة في التحليل والفهم، جامع لكثير مما افترق، قارئ لأخبار وآثار من سبق، لايماري أو يجاري بل يحب التواضع وعدم الشهرة.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير