وينقل عن أحدهم، فيقول: ' هم قومٌ قاموا مع الله تعالى على حفظ أوقاتهم، ومراعاة أسرارهم، فلاموا أنفسهم على جميع ما أظهروا مِن أنواع القُرَب، والعبادات، وأظهروا للخلق قبائح ما هم فيه، وكتموا عنهم محاسنَهم، فلامهم الخلْقُ على ظواهرهم، ولاموا هم أنفسهم على ما يعرفون مِن بواطنهم، فأكرمهم الله بكشف الأسرار والاطلاع على أنواع الغيوب، وتصحيح الفِراسة في الخلق، وإظهار الكرامات عليهم!! '.
أي: أن هؤلاء القوم لما أظهروا القبائح -بزعمهم- ازدراءً لأنفسهم، وحتى لا يتعلق بهم النَّاس، وحتى لا يظنوا فيهم أنَّهم أولياء، وهم يريدون أن يكونوا أولياء في الباطن فقط، ولا أحد يعلم بهم، وينزِّهوا عن أنفسهم الرياء، وعن كلام الناس: أظهروا القبائح، وأظهروا المعايب، وأظهروا الشنائع حتى أن منهم مَن كان يأتي الفاحشة في الدواب علانية أمام الناس، ومنهم مَن دخل الحمَّام فسرق لباس أحد النَّاس، ولبسه بحيث يُرى، وخرج في الشارع، وكان الناس يعتقدون فيه الولاية، فلما رأوه أدركوه، وضربوه، وأخذوا الملابس، فقيل له في ذلك، فقال لهم: حتى أسْقط مِن أعينهم، وأبقى في عين الحق!! إلى آخر ما ينسجونه حولهم مِن الحكايات التي يصنعونها -كما يقولون- في تزكية النفس، وتطهيرها.
وهذا الكلام من المعلوم أنه مخالف لقول النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {من سرَّته حسنتُه، وساءتْه سيئته، فهو المؤمن} فالمؤمن لا يحب ذلك، ولم يؤمر أن يُظهر السيئات والقبائح، لكن القضية أكبر مِن قضية مخالفة هذا الحديث، القضية: أنَّها مخالفة للإسلام، وهدم له، وإيضاح ذلك بشيء مِن التفصيل أن نقول:
إن الزنادقة الذين أنشئوا هذا الدين، وركَّبوه، ونقلوه إلى المسلمين، ولبَّسوا به عليهم، هؤلاء واجهتهم الأمَّة بالإنكار، والرد والتكذيب حتى العوام مِن المسلمين، ودمغوهم بالكفر، والزندقة، وقلَّ أن تجد عالماً مِن كبار الصوفية إلا واتُّهم بالزندقة؛ إمَّا أن يكون قُتل بتهمة الزندقة، أو اتُّهم بها، أو سجن كما سجن ذو النون، وكما اتُّهم الجنيد، وقتل الحلاج، وغيرهم مِن هذا النوع.
واستدل العلماء، والمسلمون بظاهر حالهم هذا المخالف للشرع على خبث الباطن، وعلى خبث الطوية؛ لأنَّه ليس بوسع المسلم أن يرى رجلاً يمشى مكشوف العورة، أو رجلاً يرتكب الفاحشة في البهائم علانية، ويترك الجمع، والجماعات، ويُقر على ذلك؛ فضلاً عن أن يعتقد أن هذا مِن رجال الغيب، أو مِن أولياء الله، لا يمكن هذا أبداً.
فهؤلاء الزنادقة أرادوا أن يخترعوا تقاة، أو تقية، أو خديعة شيطانية، لكي يوقعوا بها النَّاس، ويلبِّسوا بها على المسلمين، فقالوا لهم: هؤلاء القوم أولياء، فوصلت بهم مجاهدة النفس إلى حد استعذاب الأذى في ذات الله تعالى، وإلى استجلاب تهمة الناس لهم، هم يدْعون النَّاس إلى أن يتهموهم، ويلوموهم، ويتكلموا فيهم، ويكرهوهم، ويحتقروهم، هم يريدون بذلك أن يُنقُّوا أنفسهم، بمحبتهم لله، وأن يتجردوا عن الرياء، وعن الشهرة، وأن يسقطوا مِن عين الخلق، ويبقوا في عين الحق -كما يقولون- فهم متعمِّدون في هذا، ويحبون أن يقول النَّاس: إنَّهم زنادقة! مخالفون! ويستمرون على إظهار هذه الأحوال على حد قول الشاعر كما يقولون:
أجد الملامة في هواك لذيذة حبّاً لذكرك فليلمني اللُّوَّم
لكن في الحقيقة أن المسخور منهم، والمستهزأ بهم هم هؤلاء أصحاب الظاهر المغفلون الذين ينتقدون مثل هؤلاء الأولياء، أو يلمزونهم، أو يتكلمون فيهم بدعوى أنهم مخالفون لظاهر الشرع، وهؤلاء شهدوا الحقيقة الكونيَّة، وأدركوا سرَّ القدر، واشتغلوا بإصلاح القلب عن إصلاح الظاهر، واشتغلوا بمحبة الحق عن سماع إنكار الخلق، ويقولون مِن جملة ما يقولون ويتعللون به: إنَّكم أنتم يا أهل الظاهر -الفقهاء، والعلماء، والرسوم- تنكرون علينا أن نترك صلاة الجمعة، وأنتم تكتبون في كتب الفقه: أن مَن خاف ضياع ماله جاز له تركها لأجله، ومَن كان مسافراً، ولو كان مسافراً للدنيا أو للتجارة يجمع المال تسقط عنه صلاة الجمعة، فكيف بالذي في الخلوة مستغرق مع الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وقلبه متعلق بمحبة الله الذي هو أغلى مِن الدنيا كلِّها؟
وتقولون: هذا لا يمكن أن يَترك الجمعة، والجماعات؟
ولا يجوزله أن يعتكف في خلوة، ويترك الجُمُع والجماعات؟
¥