يقول اليافعي في [1/ 322]: ' وكثيرٌ مِن هذه الطائفة -أعني: الصوفية - جمعوا بين الوَلَه والتجريد في ظاهر الشرع -تخريباً بائناً- أسقطهم عن أعين الناس؛ ليستتروا عن شهرة الصلاح، يخفون محاسنهم ويظهرون مساوئهم، ومنهم مَن يكشف عورته بين الناس، ومنهم مَن يُرى أنَّه لا يصلي، وهم يصلُّون، ويجتهدون فيما بينهم وبين الله تعالى، وقد شوهد كثيرٌ منهم يصلي في الخلوات، وفى جوف الليل؛ لأنَّهم كانوا يبالغون في نفي رؤية الخلق، وإسقاطها مِن قلوبهم، ولا يبالي أحدهم بكونه عند النَّاس زنديقاً إذا كان عند الله ليس زنديقاً، كنسوا بنفوسهم المزابل لتحيا لمولاهم حياةً طيبةً قبل المعاد! ' اهـ.
يقولون: فليكن زنديقاً عندك، وعند غيرك، لكنه عند الله ولي!!
لو جاء زنديق حقيقي، وقال هذه الكفريات! فما أدرانا أن يكون هذا وليّاً؟!
إلى أن يقول: ' ومنهم مَن يحتجب بحاله عن أعين الناس، وهم معهم في الصلوات!} ' أقول: انظروا يصلي مع الجماعة ويمكن أننا لم نره!!
يقولون: هذا موجود فلا تُنكر عليه، ' ولهؤلاء أطوار لا يدركها العقل' - هم يسمُّون اختلاف التشكل: تطوراً!! لعلنا نقرأ هذا في الكرامات، هذا التطور مِن عمل المشعوذين، والسحرة، والجن، واستعانتهم بالشياطين، ' وإنما تدرك بالنُّور- يعني: بالكشف- ويعرفها العارفون بالله تعالى -يعني: لا نعرفها نحن المحجوبون '.
يقول: ' فقد روِينا أن بعضهم كان لا يُرى أنَّه يصلي، فأقيمت الصلاة يوماً وهو جالس، فقال له بعض الفقهاء: قم فصلِّ مع الجماعة - فالفقيه أنكر عليه، وقال له: قم صلِّ- فقام، وأحرم معهم، وصلَّى الركعة الأولى، والفقيه المنكِر ينظر إليه، فلمَّا قاموا إلى الركعة الثانية: نظر الفقيه إلى مكان الرجل، فإذا به غيره يصلي؛ فتعجب مِن ذلك، ثم رأى في الركعة الثالثة شخصاً ثالثاً، ثم في الرابعة رابعاً، فزاد تعجبه - أربعة أشخاص في أربع ركعات- فلما سلَّم مِن صلاته التفت، فرأى صاحبَه الأول جالساً مكانه، وليس عنده أحدٌ، فتحير الفقيه مما رأى، فقال له الفقير وهو يضحك -الصوفي يسمونه فقيراً-: يا فقيه! أي الأربعة صلَّى معكم هذه الصلاة؟
يقول اليافعي: فاعترف الفقيه بفضله وزال ما عنده من الإنكار!} '
إذاً: مادام أنه يصلي كل ركعة بشكل شخص آخر: إذاً يمكن أنه يصلي في أي وقت، وأنت لا تنكر على أي إنسان تراه تاركاً للصلاة، والناس يصلون الجمعة والجماعات لأنَّك لا تدري؛ لعله صلَّى في صورة أخرى، كيف تنكر على أولياء الله فأنت مِن جهلك تنظر بنظرك العقلي، الحسي العادي، وهؤلاء قوم لهم أمور أخرى، ولهم أطوار أخرى!
أقول: إنَّه بمثل هذا الكلام والتلبيس استطاعت الصوفية أن تضرب بسورٍ عريضٍ بين أولياء الله الحقيقيين المجاهدين في سبيل الله، وعلماء الأمة العظام الذين يقفون في وجه المنكرات، ويحاربون أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وبين عامة المسلمين، ضربوا بينهم بسورٍ عظيمٍ؛ فأصبح مَن لم يكشف عورته، ومَن لم يترك الصلاة، ومَن لم يطرح نفسه على المزابل، أولمَ يَظهر للنَّاس أنَّه بَهلول، أو مجنون؛ فهذا ليس بوليٍّ عند عامَّة المسلمين، وليس مِن أصحاب الكرامات، ومِن ثَمَّ فلا يلتمس منه هدًى ولا علم؛ لأنَّه مِن أصحاب الظاهر، ومِن أصحاب الرسوم، ومِن الملبَّس عليهم، ومن المحجوبين .. إلى آخر هذه الألقاب التي ينبز بها هؤلاء الصوفية علماء الشريعة، وفقهاء السنَّة، وأولياء الله تعالى الحقيقيين.
ولم تقف الصوفية عند هذا الحد فحسب؛ بل أصبحت تُنكر على مَن يُنكر على أي دين! -أي: لا يكفي أن تنكر على إنسان مسلم أنَّه كشف عورته، وترك الجمعة، والجماعة، بل يقولون: لا تنكر على أي إنسان أنه منتسب إلى أي دين!!
انظروا إلى كتاب أخبار الحلاج ص [54]، يقول عبد الله بن طاهر الأزدي: ' كنتُ أخاصم يهوديّاً في سوق بغداد، وجرى على لفظي أن قلتُ له: يا كلب! فمر بي الحسين بن منصور الحلاج، ونظر إليَّ شزراً، وقال: لا تنبِح كلبك، وذهب سريعاً، فلما فرغتُ مِن المخاصمة قصدته، فدخلتُ عليه فأعرض عني بوجهه، فاعتذرتُ إليه، فرضي، ثم قال لي: يا بني، الأديان كلها لله عز وجل!! شَغَل الله بكل دينٍ طائفة لا اختياراً فيهم، بل اختياراً عليهم، فمن لام أحداً ببطلان ما هو عليه: فقد حَكَم أنَّه اختار ذلك لنفسه.
¥