وهذا الكلام الذى ذكره الخطابى قد نقل نحوا منه من العلماء من لا يحصى عددهم مثل أبى بكر الإسماعيلى والإمام يحيى بن عمار السجزى وشيخ الإسلام أبى اسماعيل الهروى صاحب منازل السائرين و ذم الكلام وهو أشهر من أن يوصف وشيخ الإسلام أبى عثمان الصابونى وأبى عمر بن عبدالبر النمرى امام المغرب وغيرهم
مجموع الفتاوى [جزء 16 - صفحة 414 وما بعدها]
و قول ابن السائب إن هذا من المكتوم الذي لا يفسر يقتضي أن له تفسيرا يعلمه العلماء و يكتمونه و هذا على و جهين إما أن يريد أنه يكتم شيء مما بينه الرسول صلى الله عليه و سلم عن جميع الناس فهذا من الكتمان المجرد الذي ذم الله عليه و هذه حال أهل الكتاب و عاب الذين يكتمون ما بينه للناس من البينات و الهدى من بعد ما بينه للناس فى الكتاب و قال و من أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله
و هذه حال أهل الكتاب فى كتمان ما فى كتابهم من الألفاظ يتأولها بعضهم و يجعلها بعضهم متشابها و هي دلائل على نبوة محمد صلى الله عليه و سلم و غير ذلك فإن ألفاظ التوراة و الإنجيل و سائر كتب الأنبياء و هي بضع و عشرون كتابا عند أهل الكتاب لا يمكنهم جحد ألفاظها لكن يحرفونها بالتأويل الباطل و يكتمون معانيها الصحيحة عن عامتهم كما قال تعالى و منهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أمانى
فمن جعل أهل القرآن كذلك و أمرهم أن يكونوا فيه أميين لا يعلمون الكتاب إلا تلاوة فقد أمرهم بنظير ما ذم الله عليه أهل الكتاب
وصبيغ بن عسل التميمي إنما ضربه عمر لأنه قصد باتباع المتشابه إبتغاء الفتنة و إبتغاء تأويله و هؤلاء الذين عابهم الله فى كتابه لأنهم جمعوا شيئين سوء القصد و الجهل فهم لا يفهمون معناه و يريدون أن يضربوا كتاب الله بعضه ببعض ليوقعوا بذلك الشبهة و الشك و في الصحيح عن عائشة أن النبى صلى الله عليه و سلم قال إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم
فهذا فعل من يعارض النصوص بعضها ببعض ليوقع الفتنة و هي الشك و الريب في القلوب كما روى أنه خرج على القوم و هم يتجادلون في القدر هؤلاء يقولون ألم يقل الله كذا و هؤلاء يقولون ألم يقل الله كذا فكأنما فقىء فى و جهه حب الرمان ثم قال أبهذا أمرتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض أنظروا ما أمرتم به فافعلوه
فكل من إتبع المتشابه على هذا الوجه فهو مذموم و هو حال من يريد أن يشكك الناس فيما علموه لكونه و إياهم لم يفهموا ماتوهموا أنه يعارضه هذا أصل الفتنة أن يترك المعلوم لغير معلوم كالسفسطة التى تورث شبها يقدح بها فيما علم و تيقن فهذه حال من يفسد قلوب الناس و عقولهم بإفساد ما فيها من العلم و العمل أصل الهدى فإذا شككهم فيما علموه بقوا حيارى
و الرسول صلى الله عليه و سلم قد أتى بالآيات البينات الدالة على صدقه و القرآن فيه الآيات المحكمات اللاتى هي أم الكتاب قد علم معناها و علم أنها حق و بذلك يهتدي الخلق و ينتفعون
فمن اتبع المتشابه ابتغى الفتنة و ابتغى تأويله و الأول قصدهم فيه فاسد و الثانى ليسوا من أهله بل يتكلمون فى تأويله بما يفسد معناه إذ كانوا ليسوا من الراسخين فى العلم
و إنما الراسخ فى العلم الذي رسخ في العلم بمعنى المحكم و صار ثابتا فيه لا يشك و لا يرتاب فيه بما يعارضه من المتشابه بل هو مؤمن به قد يعلمون تأويل المتشابه
و أما من لم يرسخ فى ذلك بل إذا عارضه المتشابه شك فيه فهذا يجوز أن يراد بالمتشابه ما يناقض المحكم فلا يعلم معنى المتشابه إذ لم يرسخ في العلم بالمحكم و هو يبتغي الفتنة فى هذا و هذا فهذا يعاقب عقوبة تردعه كما فعل عمر بصبيغ
و أما من قصده الهدى و الحق فليس من هؤلاء و قد كان عمر يسأل و يسأل عن معاني الآيات الدقيقة و قد سأل أصحابه عن قوله إذا جاء نصر الله و الفتح فذكروا ظاهر لفظها و لما فسرها ابن عباس بأنها إعلام النبى صلى الله عليه و سلم بقرب و فاته قال ما أعلم منها إلا ما تعلم
ثم أنهم يقولون المأثور عن السلف هو السكوت عن الخوض فى تأويل ذلك و المصير إلى الإيمان بظاهره و الوقوف عن تفسيره لأنا قد نهينا أن نقول فى كتاب الله برأينا و لم ينبهنا الله و رسوله على حقيقة معنى ذلك
¥