وحقيقة قول هؤلاء في المخاطب لنا: أنه لم يبين الحق ولا أوضحه مع أمره لنا أن نعتقده وأن ما خاطبنا به وأمرنا باتباعه والرد إليه لم يبين به الحق ولا كشفه بل دل ظاهره علي الكفر والباطل وأراد منا أن نفهم منه شيئا أو أن نفهم منه ما لا دليل عليه فيه وهذا كله مما يعلم بالاضطرار تنزيه الله ورسوله عنه وأنه من جنس أقوال أهل التحريف والإلحاد
وبهذا احتج الملاحدة كابن سينا وغيره علي مثبتي المعاد وقالوا: القول في نصوص المعاد كالقول في نصوص التشبيه والتجسيم وزعموا أن الرسول صلي الله عليه وسلم لم يبين ما الأمر عليه في نفسه لا في العلم بالله تعالي ولا باليوم الآخر فكان الذي استطالوا به علي هؤلاء هو موافقتهم لهم علي نفي الصفات وإلا فلو آمنوا بالكتاب كله حق الإيمان لبطلت معارضتهم ودحضت حجتهم
ولهذا كان أبن النفيس المتطبب الفاضل يقول: ليس إلا مذهبان: مذهب أهل الحديث أو مذهب الفلاسفة فأما هؤلاء المتكلمون فقولهم ظاهر التناقض والاختلاف يعين أن أهل الحديث أثبتوا كل ما جاء به الرسل وأولئك جعلوا الجميع تخيلا وتوهيما ومعلوم بالأدلة الكثيرة السمعية والعقلية فساد مذهب هؤلاء الملاحدة فتعين أن يكون الحق مذهب السلف أهل الحديث والسنة والجماعة
ثم إن ابن سينا وأمثاله من الباطنية المتفلسفة والقرامطة يقولون: إنه أراد من المخاطبين أن يفهموا الأمر علي خلاف ما هو عليه وأن يعتقدوا ما لا حقيقة له في الخارج لما في هذا التخييل والاعتقاد الفاسد لهم من المصلحة
والجهمية والمعتزلة وأمثالهم يقولون: إنه أراد أن يعتقدوا الحق علي ما هو عليه مع علمهم بأنه لم يبين في الكتاب والسنة بل النصوص تدل علي نقيض ذلك فأولئك يقولون: أراد منهم اعتقاد الباطل وأمرهم به وهؤلاء يقولون: أراد اعتقاد ما لم يدلهم إلا علي نقيضه
والمؤمن يعلم بالاضطرار أن كلا القولين باطل ولا بد للنفاة أهل التأويل من هذا أو هذا: وإذا كان كلاهما باطلا كان تأويل النفاة للنصوص باطلا: فيكون نقيضه حقا وهو إقرار الأدلة الشرعية علي مدلولاتها ومن خرج عن ذلك لزمه من الفساد ما لا يقوله إلا أهل الإلحاد
وما ذكرناه من لوازم قول التفويض: هو لازم لقولهم الظاهر المعروف بينهم إذ قالوا: إن الرسول كان يعلم معاني هذه النصوص المشكلة المتشابهة ولكن لم يبين للناس مراده بها ولا أوضحه إيضاحا يقطع به النزاع
وأما علي قول أكابرهم: إن معاني هذه النصوص المشكلة المتشابهة لا يعلمه إلا الله وأن معناها الذي أراده الله بها هو ما يوجب صرفها عن ظواهرها فعلي قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص ولا الملائكة ولا السابقون الأولون وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه بل يقولون كلاما لا يعقلون معناه وكذلك نصوص المثبتين للقدر عند طائفة والنصوص المثبتة للأمر والنهي والوعد والوعيد عند طائفة والنصوص المثبتة للمعاد عند طائفة
ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدي وبيانا للناس وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين وأن يبين للناس ما نزل إليهم وأمر بتدبر القرآن وعقله ومع هذا فأشرف ما فيه وهو ما أخبر به الرب عن صفاته أو عن كونه خالقا لكل شيء وهو بكل شيء عليم أو عن كونه أمر ونهي ووعد وتوعد أو عما أخبر به عن اليوم الآخر ـ لا يعلم أحد معناه فلا يعقل ولا يتدبر ولا يكون الرسول بين للناس ما نزل إليهم ولا بلغ البلاغ المبين
وعلي هذا التقدير فيقول كل ملحد ومبتدع: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي وليس في النصوص ما يناقض ذلك لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة لا يعلم أحد معناها وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يستدل به
فيبقي هذا الكلام سدا لباب الهدي والبيان من جهة الأنبياء وفتحا لباب من يعارضهم ويقول: إن الهدي والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء لأنا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية والأنبياء لم يعلموا ما يقولون: فضلا عن أن يبينوا مرادهم
فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد
¥