ولعل هذا الحديث من جملة تلك الأحاديث الموضوعة المصنوعة .. ففي متنه فضلاً عن سنده من الطامات، كشفنا ما قدرنا الله على كشفه آنفاً على أن هذه الفقرة الأخيرة منه أخطر ما جاء فيه وهي:
فنودي من القبر: إنه غفر لك!!! أي أن النبي صلى الله عليه وسلم ناداه من قبره إنه غفر لك .. وذلك تحريضاً لكل من يقرأ هذا الحديث الموضوع من أهل الغفلة أن يصدقه ويفعل ما فعله الأعرابي لينال البشرى بمغفرة الذنب كما نالها الأعرابي.
فتفشى بين أغرار المسلمين هذه الأكاذيب وعلى توالي الأيام يحتج به كحقائق لا ينازع فيها .. وهذا ما حصل بالفعل .. فقد جاء بهذا الحديث وأمثاله .. لا أغرار المسلمين فحسب؛ بل وعقلاؤهم وخاصة أهل العلم فيهم مع الأسف الشديد، اللهم إلا من رحم ربك الذين يجددون للناس أمر دينهم، ويعصمهم الله من الزلل، فينصر بهم دينهم، ويحفظ بهم ما أنزل من البينات فيردون الأباطيل ويكشفون الخفايا والأعصبة عن الأبصار والبصائر، ولا يخلو أي عصر منهم والحمد لله.
إن هذه الخاتمة من هذا الحديث، أراد بها واضعوه أن يدخلوا في روع المسلمين:
1 - أن رسول الله حي في قبره ويسمع كلام من يكلمه، ويجيبهم بكلام مسموع من القبر.
2 - تكذيب ما جاء في القرآن الذي ثبت أن الأموات لا يسمعون ولا يجيبون.
3 - التألي على الله بأنه غفر ذنبه مع أن هذا من المغيبات التي لا يعلمها إلا الله.
على أن هذه الأمور غير خافية المقاصد؛ بل هي ظاهرة بينه، ولا تنطلي إلا على الذين سلموا قيادهم للباطل، وأننا نرد عليهم بما يلي:
1 - إن الله تعالى أخبرنا أن {كل نفس ذائقة الموت} وقد قال عز وجل: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} وقال عز من قائل: {إنك ميت وإنهم ميتون} كل هذا يدلنا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات كما مات من قبله ومن بعده والذي ينقطع عن الناس بسبب الموت، ينقطع عمله لأنه بشر مثلهم فلا يتكلم ولا يسمع وليس له من بعد وفاته فداه أبي وأمي ونفسي أي اتصال بالدنيا ولو كان ذلك ممكناً؛ ولكن لم يتصلوا به لعلمهم الأكيد أنه لا يمكن الاتصال به إلى يوم القيامة، فكيف بنادي الأعرابيّ من قبره وهو ميت منقطع العمل والحواس إلى يوم يبعثون؟
2 - لقد قرر القرآن أن الأموات لا يسمعون ولا يتكلمون وإنهم في عالم آخر ليس له علاقة بعالمنا هذا: {ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون}.
3 - فما دام رسول الله لا يسمع ولا يتكلم ولا يجيب فكيف يجيب الأعرابي من القبر والقبر والبرزخ من عالم الغيب الذي يجب أن نؤمن به دون أن نراه فإن سمع منه صوت أو كلام أو بشارة صار عالم شهادة، وهذا لن يكون، وسيظل من عالم الغيب إلى يوم القيامة فإذا انتفى هذا، انتفت البشارة بالمغفرة فلو كان في المنام لكان فيه نظر .. فكيف باليقظة؟!!
فإنه من أكذب الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم ((من كذب عليَّ يلج النار)) ولكن أين الخوف من الله تعالى حتى لا يكذب عليه ولا على رسوله صلى الله عليه وسلم، اللهم نعوذ بك من الخذلان وسوء المنقلب.
وهكذا .. فقد اتضح لك يا أخي المسلم، ما في متن هذا الحديث من الطامات والأباطيل والترهات، والكذب والافتراء، مما يدلك دلالة واضحة، على أن هذا الحديث موضوع، ومكذوب ومصنوع، هذا من جهة المتن!! فكيف إذا ثبت لك أيضاً أن سنده موضوع، فلا شك أنك ستزداد يقيناً بعدم صلاحه للاحتجاج به).
قال الرفاعي:
(أرأيت يا أخي المسلم الكريم سند هذا الحديث؟!! وكيف تحفه الظلمات والجهالات .. والكذب والانقطاع، وما شابه؟!
إن حديثاً له هذا المتن .. وذاك السند البالي المهلهل .. لا تقوم به حجة أو دليل على صحة المدَّعي؟!)
ويلخص في رد هذه الحكايات علامة العراق أبو المعالي محمود شكري الألوسي رحمه الله في كتابه (غاية الأماني):
(… فإن تلك الحكايات لو سلمت من الكذب والافتراء فلا تدل على المقصود من جواز الاستغاثة بغير الله تعالى، فإن الاستغاثة كما ذكرنا سابقاً دعاء والدعاء مخ العبادة، وهي لا تصلح إلا لله، ومن عبد غيره فقد أشرك.
¥