قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (): والأشعري, وأمثاله برزخ بين السلف والجهمية أخذ من هؤلاء كلاماً صحيحاً, ومن هؤلاء أصولاً عقلية ظنوها صحيحة, وهي فاسدة.
ثم المرحلة الثالثة: وهي مرحلة اعتناق مذهب أهل السنة والحديث مقتدياً بالإمام أحمد بن حنبل رحمه الله كما قرره في كتابه "الإبانة عن أصول الدبانة " وهو آخر كتبه ().
وإن كان كثيراً من الأشاعرة ينكرون هذه المرحلة الثالثة, وينكرون كتاب "الإبانة", ويزعمون أنه منتحل عليه, وبعضهم اعتذر له في تصنيفه لهذه الكتب بعذر أقرب إلى الطعن والتنقص له كما فعل سعيد فودة.
وقد أثبت كتاب الإبانة للأشعري جملة من كبار العلماء حتى من أنصاره وأتباع مذهبه.
فقد نقل عنه ابن عساكر الدمشقي رحمه الله في كتابه "تبيين كذب المفتري" (ص157) بتحقيق الكوثري جملة من قوله في كتاب "الإبانة" ().
قال: فاسمع ما ذكره في أول كتابه الذي سماه "الإبانة"، فإنه قال: ودفعوا أن يكون لله وجه - أي المعتزلة - مع قوله: ?وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ? [الرحمن:27].
وأنكروا أن يكون لله يدان مع قوله: ?لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ? [ص:75]. وأنكروا أن يكون له عين مع قوله: ?تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا? [القمر:14]، ولقوله: ?وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي? [طه:39].
ونفوا ما روى عن رسول الله ? من قوله: ((إن الله ينزل إلى سماء الدنيا)).
وأنا ذاكر ذلك إن شاء الله باباً باباً, وبه المعونة والتأييد ومنه التوفيق والتسديد.
فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون, وديانتكم التي تدينون بها.
قيل له: قولنا الذي به نقول وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب الله وسنة نبيه ?, وما روى عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث؛ ونحن بذلك معتصمون, وبما كان عليه أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون, ولمن خالف قوله مجانبون؛ لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال, وأوضح به المنهاج, وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير مفهم, وعلى جميع أئمة المسلمين.
وجملة قولنا: أن نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله, وما رواه الثقات عن رسول الله ? لا نرد من ذلك شيئاً, وأن الله إله واحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولداً, وأن محمداً عبده ورسوله, وأن الجنة والنار حق, وأن الساعة آتية لا ريب فيها, وأن الله يبعث من في القبور, وأن الله استوى على عرشه, وأن له وجهاً كما قال: ?وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ?, وأن له يداً كما قال: ?بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ?، وقال: ?لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?, وأن له عيناً بلا كيف كما قال: ?تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا?.
قلت: لكن رجوعه إلى مذهب أهل السنة والجماعة ليس رجوعاً إلى مذهب السنة المحض؛ فإن رجوعه ليس رجوعاً صافياً؛ فقد بقيت بعض شوائب الاعتزال في مذهبه.
قال شيح الإسلام ابن تيمية:
والأشعري وأمثاله برزخ بن السلف والجهمية، أخذوا من هؤلاء كلاماً صحيحا , ومن هؤلاء أصولاً عقلية ظنوها صحيحة, وهي فاسدة؛ فمن الناس من مال إليه من الجهة السلفية, ومن الناس من مال إليه من الجهة البدعية الجهمية ().
2 - فودة يتهم الأشعري بالتقية والمداهنة:
لما رأى الأشاعرة أنهم لا يستطيعون نفي كتب الأشعري التي ألفها في آخر عمره, والتي فيها إثبات الصفات الخبرية, وفيها النقض لأصوله التي كان عليها, وفيها الرجوع إلى ما كان عليه السلف الصالح, وإلى ما قرره إمام أهل السنة الإمام أحمد رحمه الله؛ كـ "كتاب الإبانة"، و"اللمع" و"الموجز" و"رسالته إلى أهل الثغر" وغيرها؛ جاءوا بعذر أقبح من ذنب كما يقال؛ فقد اتهموه بالمداهنة والتقية في تأليفه لتلك الكتب.
قال سعيد فودة في كتابه "بحوث في علم الكلام" (ص41):
¥