فإن الشجرة ـ مثلا ـ اسم لمجموع الجذع والورق والأغصان، وهي بعد ذهاب الورق شجرة، وبعد ذهاب الأغصان شجرة؛ لكن كاملة وناقصة، فليفعل مثل ذلك في مسمى الإيمان والدِّين، أن الإيمان
ثلاث درجات: إيمان السابقين المقربين، وهو ما أتى فيه بالواجبات والمستحبات، من فعل وترك.
وإيمان المقتصدين أصحاب اليمين، وهو ما أتى فيه بالواجبات من فعل وترك،
وإيمان الظالمين، وهو ما يترك فيه بعض الواجبات، أو يفعل فيه بعض المحظورات.
ولهذا قال علماء السنة في وصفهم [اعتقاد أهل السنة والجماعة]: إنهم لا يُكَفِّرون أحدًا من أهل القبلة بذنب، إشارة إلى بدعة الخوارج المكفرة بمطلق الذنوب، فأما أصل الإيمان الذي هو الإقرار بما جاءت به الرسل عن الله تصديقًا به وانقيادًا له، فهذا أصل الإيمان الذي من لم يأت به فليس بمؤمن؛ ولهذا تواتر في الأحاديث: [أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان] [مثقال حبة من إيمان]، وفي رواية الصحيح أيضًا: [مثقال حبة من خير] [مثقال ذرة من خير]
وقال صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة ـ: [الإيمان بضع وستون ـ أو بضع وسبعون ـ شعبة، أعلاها قول لا إله إ
وقال أيضا:
فَصل
أول البدع ظهورًا في الإسلام، وأظهرها ذَمًّا في السنة والآثار: بدعة الحرورية المارقة؛ فإن أولهم قال للنبي صلى الله عليه وسلم في وجهه: (اعدل يا محمد، فإنك لم تعدل،
9
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم وقتالهم، وقاتلهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع أمير المؤمنين على بن أبي طالب.
والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مستفيضة بوصفهم وذمهم والأمر بقتالهم.
قال أحمد بن حنبل: صَحَّ الحديث في الخوارج من عشرة أوجه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يَحْقرُ أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرًا عند اللّه لمن قتلهم يوم القيامة).
ولهم خاصتان مشهورتان فارقوا بهما جماعة المسلمين وأئمتهم:
أحدهما: خروجهم عن السنة، وجعلهم ما ليس بسيئة سيئة، أو ما ليس بحسنة حسنة، وهذا هو الذي أظهروه في وجه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال له ذو الخُوَيْصِرَة التميمي: اعدل فإنك لم تعدل، حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟ لقد خبتُ وخسرتُ إن لم أعدل). فقوله: فإنك لم تعدل جعل منه لفعل النبي صلى الله عليه وسلم سفهًا وترك عدل، وقوله: [اعدل] أمر له بما اعتقده هو حسنة من القسمة التي لا تصلح، وهذا الوصف تشترك فيه البدع المخالفة للسنة، فقائلها لابد أن يثبت ما نفته السنة وينفي ما أثبتته السنة، ويحسن ما قبحته السنة أو يقبح ما حسنت السنة، وإلا لم يكن بدعة، وهذا القدر قد يقع من بعض أهل العلم خطأ في بعض المسائل، لكن أهل البدع يخالفون السنة الظاهرة المعلومة.
والخوارج جوزوا على الرسول نفسه أن يجور ويضل في سنته، ولم يوجبوا طاعته ومتابعته، وإنما صدقوه فيما بلغه من القرآن دون ما شرعه من السنة التي تخالف ـ بزعمهم ـ ظاهر القرآن.
وغالب أهل البدع ـ غير الخوارج ـ يتابعونهم في الحقيقة على هذا؛ فإنهم يرون أن الرسول لو قال بخلاف مقالتهم لما اتبعوه، كما يحكى عن عمرو بن عبيد في حديث
الصادق المصدوق، وإنما يدفعون عن نفوسهم الحجة؛ إما برد النقل، وإما بتأويل المنقول، فيطعنون تارة في الإسناد وتارة في المتن، وإلا فهم ليسوا متبعين ولا مؤتمين بحقيقة السنة التي جاء بها الرسول، بل ولا بحقيقة القرآن.
الفرق الثاني في الخوارج وأهل البدع: أنهم يكفرون بالذنوب والسيئات. ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم، وأن دار الإسلام دار حرب، ودارهم هي دار الإيمان. وكذلك يقول جمهور الرافضة، وجمهور المعتزلة، والجهمية، وطائفة من غلاة المنتسبة إلى أهل الحديث والفقه ومتكلميهم. فهذا أصل البدع التي ثبت بنص سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف أنها بدعة، وهو جعل العفو سيئة وجعل السيئة كفرًا.
¥