, يستبيح بعد ذلك أن يكذب ليدافع عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن الذي يرضى لنفسه أن يتهم قوما جاهروا بالإنكار على بعض ولاتهم لأنهم خالفوا بعض أحكام السنة , بأنهم استجازوا لأنفسهم بعد ذلك أن يضيفوا إلى السنة أحكاما لم يقلها رسول اله صلى الله عليه وسلم , أيها الناس أليست لكم عقول تحكمون بها؟ أم أنتم تتكلمون لقوم لا عقول لهم " أهـ (37) , إن قوما لم يحابوا في دينهم أحدا لا أبا و ولا ابنا , ولا أخا , ولا صديقا , ولا أستاذا , ولا ملكا , ولا قويا , ولا ضعيفا , ولذلك عنوان صدقهم وديانتهم , وان دينهم أغلى عندهم من كل شيء.
فتحصل مما سبق أن هذه الدعوى لا يمكن إلا أن تكون باطلة , ويدل على بطلانه عدة أمور:
الأمر الأول: ما عرف عن هؤلاء الأئمة من الزهد والورع والمراقبة لله تعالى , فالشافعي مثلا الذي اتهم بأنه وضع بعض الأصول لأغراض سياسية كان من أزهد الناس واتقاهم لله تعالى , وأشدهم مراقبة له , فقد ذكر عنه من الاجتهاد في الطاعة وقيام الليل وقراءة القرآن الشيء البليغ في التقوى والخشية , وكذا غيره من أئمة الإسلام الكبار الذي أخذ عنهم الناس الدين (38) , وأخبارهم في هذا الباب كثيرة جدا مذكورة في كتب السير العامة والخاصة.
الأمر الثاني: ما عرف عن الأئمة من عدم الخوف في دين الله من الولاة , والإنكار على مخالفاتهم الشرعية , وعدم تنفيذ ما طلبوه من الأمور المخالفة للدين , بل روى عن كثير منهم التحذير من الدخول على الأمراء والجلوس إليهم , وعدم قبول هداياهم , وأخبارهم في الباب كثيرة جدا (39) , وقد ذكر عن بعضهم الدخول على الولاة ومجالستهم كما روى عن الزهري ومالك وغيرهما , ومع هذا لا يسوغ اتهامهم بالعمالة أبدا لمجرد الدخول والمجالسة , وفي هذا يقول السباعي:" لا ندري كيف تكون الصلة بين أئمة المسلمين الثقات الأثبات , وبين الملوك والأمراء علامة على استغلالهم لهم , وقديما كان العلماء يتصلون بالخلفاء والملوك دون أن يمس هذا أماتهم في شيء , وقديما تردد الصحابة على معاوية , وتردد التابعون.
فهؤلاء الأئمة إذا اتصلوا بهؤلاء الأمراء والملوك , أو اتصلوا هم بهم , لا سبيل إلى أن يؤثر ذلك في دينهم وأمانتهم , وورعهم ... " (40).
الأمر الثالث: أن كبار هؤلاء الأئمة وقع عليهم كثير من الامتحانات والتعذيب من بعض الولاة حتى يقبل بعض ما يريده من رأي , ومن الأمثلة على ذلك ما وقع على الإمام مالك من التعذيب لأنه خالف بعض ولاة بني العباس في بعض ما يريد , وكذلك ما وقع للإمام أحمد في فتنة حلق القرآن (41) , فلو كان هؤلاء الأئمة من أتباع السلطان لما امتحنوا هذا الامتحان.
الأمر الرابع: رفضهم طلب السلطان أن ينشر مذهبه في الناس ويفرضه عليهم , وهذا ما حصل من الإمام مالك رحمه الله لما طلب منه أبو جعفر أن يفرض الموطأ على الأمة (42).
الأمر الخامس: شدتهم في دين الله وعدم محاباة أحد فيه ولو كان أقرب قريب , ومما يذكر في ذلك تجريح بعض أئمة الحديث لآبائهم وأبنائهم (43) , وما أدري كيف يستقيم هذا العمل من الأئمة في تعاملهم المجروحين من أقاربهم مع قول من قال إن كلام الأئمة في الجرح والتعديل تلاعبت به الأهواء السياسية.
هذه الأمور وغيرها كثير تدل على صدق هؤلاء الأئمة وأمانتهم في دين الله , وكذب ما زعمه أصحاب هذه الدعوى من العمالة والخضوع السلطة.
الوجه الرابع: ومما يدل على بطلان دعوى التأثير السياسي في القواعد العلمية , هو أن لازم هذه الدعوى القدح في الدين , لأنها في حقيقتها قدح في صدق وأمانة العلماء الذين هم حملة هذا الدين , والقدح في حملة الدين قدح في صحة أصل الدين أو في كماله , لأن الدين إنما وصل إلى الناس بواسطة العلماء , فإذا كانت الواسطة غير أمينة فكيف يثق الناس بدينهم.
¥