وقال:"لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريق القرآن، أقرأ في الإثبات:] الرحمن على العرش استوى [،] إليه يصعد الكلم الطيب [، وأقرأ في النفي:] ليس كمثله شيء [،] ولا يحيطون به علماً [". ثم قال:"ومن جرب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي".
وتلميذه شمس الدين الخسروشاهي، قال لبعض الفضلاء وقد دخل عليه يوماً:"ما تعتقد؟ قال: ما يعتقده المسلمون! قال: وأنت منشرح الصدر لذلك مستيقن به؟ قال: نعم! قال: اشكر الله على هذه النعمة، لكني، والله، ما أدري ما أعتقد! والله، ما أدري ما أعتقد! والله، ما أدري ما أعتقد! " وبكى حتى أخضل لحيته!
وهذا أبو المعالي الجويني يقول:"يا أصحابنا! لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به".
وقال عند موته:"لقد خضت البحر الخِضَمَّ، وخلَّيت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته، فالويل لابن الجويني، وهاأنا ذا أموت على عقيدة أمي، أو قال: على عقيدة عجائز نيسابور".
وأبوه من قبله أبو محمد الجويني قد اعتزل صنعة الكلام بعد أن كان مضطرباً فيها محتاراً، وصار إلى عقيدة السلف، وكتب رسالة نصح لبعض مشايخه من الأشاعرة، وهي ضمن مجموعة الرسائل المنيرية.
وهذا الشهرستاني صاحب كتاب"الملل والنحل" من مشاهير المتكلمين، يصف حال هؤلاء المتفلسفة وأهل الكلام بقوله:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر ... على ذقن أو قارعاً سن نادم
وترى في المقابل أن أعظم الناس إيماناً هؤلاء العوام من المسلمين، فاعتقاد الكثير منهم صحيح موافق للفطرة، وإيمان أحدهم في صدره كالجبال الرواسي، بخلاف المتعلقين بعلم الكلام المشتغلين به لا يزال أحدهم في تخبط وتخليط حتى ينقص إيمانه أو ربما ينتقض، فإن أدركته الألطاف الربانية والنفحات الرحمانية نجا وفاز وإلا خاب وهلك، وبالله التوفيق وهو المستعان، وعليه التكلان.
القسم الثاني من المسألة: بعد بيان تهافت قول المتكلمين في إيجابهم الاستدلال العقلي على العقيدة، وفساد قولهم في كون التقليد هو اتباع الكتاب والسنة دون تدليل عقلي على ذلك، وصحة قول أهل السنة والجماعة في كفاية الإيمان المجمل من كل مسلم، بقي أن يقال: هل يجوز للمسلم العامي أن يقلد أحداً من أهل العلم الموثوق بهم في أبواب التوحيد والعقائد دون أن يعرف مأخذه من الكتاب أو من السنة أو من إجماع أهل الحق؟؟
فالجواب: ذهب جمهور المتكلمين من الأشاعرة وغيرهم والمنتسبين إلى السنة إلى عدم جواز ذلك، بينما أجازوا التقليد في الأحكام الشرعية، فجعلوا الدين عندهم أصولاً وفروعاً، فالأصول لا يجوز فيها التقليد بخلاف الفروع.
وحجتهم في عدم التقليد في الأصول، قول الله جل وعلا:] إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون [، والحجة في جواز التقليد في الفروع، قول الله جل وعلا:] فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [.
أما احتجاجهم بالآية الأولى فليس في محل النزاع، وهو مقول بموجبه، إذ يحرم باتفاق العلماء تقليد من لا علم له بالشريعة، وقد قال تعالى:] أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون [. ومسألتنا في جواز تقليد العالم العارف بالشريعة الذي يحسن النظر في أدلتها، لا تقليد الآباء والأجداد.
وأما تقسيمهم الشريعة إلى أصول وفروع فتقسيم حادث لا أصل له في كتاب الله ولا سنة رسول الله r ولا أقوال الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان من الأئمة، ومع جريان هذا المصطلح على كثير من الألسنة وانتشاره في أوساط أهل العلم إلا أنه ليس له تعريف منضبط أو حد تام لمعناه. ولهذا صار ألعوبة عند أهل الزيغ والضلال، فتارة يجعلون المسألة هي من أصول الدين، وتارة يجعلونها من فروعه بحسب الأهواء.
وعلى كل، فالذي يتبادر إلى الأذهان من هذا المصطلح هو أن المراد بالأصول ما يتعلق بالعقيدة، والمراد بالفروع ما يتعلق بالأحكام الفقهية!
وهذا التقسيم مردود من عدة وجوه، منها:
الأول: لا دليل على هذا التقسيم، حيث لم يأت به نص أو إجماع أو قول صاحب.
¥