وقال رحمه الله: "وقال بعضهم في قوله تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ}: نور القرآن على نور الإيمان، كما قال تعالى: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [سورة الشورى، الآية: 52]. وقال السدي في قوله: {نُورٌ عَلَى نُورٍ}؛ نور القرآن ونور الإيمان حين اجتمعا فلا يكون واحد منهما إلا بصاحبه".
وقال: "ولهذا دخل في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "خيركم من تعلم القرآن وعلّمه"؛ تعليم حروفه ومعانيه جميعاً، بل تعلم معانيه هو المقصود الأول بتعليم حروفه، وذلك هو الذي يزيد الإيمان كما قال جندب بن عبد الله وعبد الله بن عمر وغيرهما – رضي الله عنهم -: "تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيماناً، وإنكم تتعلمون القرآن ثم تتعلمون الإيمان" [6].
فإن سألت: ما الإيمان الذي نتعلمه أولاً قبل الأحكام؟
فالجواب: هو أوائل ما علّمه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وهو أوائل ما نزل من القرآن. فالإيمان الذي تكرر ذكره والتأكيد عليه في ابتداء دعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم هو ثلاثة أقسام: الأول: الإيمان بالله (بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته).
الثاني: الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم.
الثالث: الإيمان بالبعث لليوم الآخر.
فإن قيل: وكيف نتعلم هذا الإيمان؟
الجواب: نتعلمه من طريقين: الأول: بالتفكر في آيات الله المرئية، وهذا له محلُّ آخر غير هذه الرسالة.
الثاني: بالتفكر في أوائل ما نزل من الآيات المتلوّة، التي غرست الإيمان كالجبال في قلوب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد جمعهما الله عز وجل في أوّل ما نزّل على نبيه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)}
فجمع له بين القراءة باسم الله وبين التذكير بنعم الرب على عباده.
فإن قلت: قد قرأنا أوائل ما نزل بل وحفظناه ولم نر أثر ذلك في إيماننا.
فالجواب –يا أخا القرآن-؛ أننا لم نأخذ القرآن كما أخذوه رضي الله عنهم.
فإن سألت عن أخذهم للقرآن فأقول:
اعلم –وفّقك الله لهداه-؛ إن القرآن تنزيل رب العالمين، وهو كتاب عظيم كما قال جل وعلا: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} [ص:67]، وثقيلٌ كما قال: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5]، بل بلغ الغاية في الإعجاز والتأثير كما قال: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} أي: لكان هذا القرآن! قاله قتادة والفراء وابن قتيبة وابن عطية وابن كثير والسّعدي وغيرهم [7].
وقد أدرك سلفنا الصالح هذه المسألة، وهذا مالك يُسأل عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له: غنها مسألة خفيفة سهلة، فغضب وقال: ليس في العلم شيء خفيف، ألم تسمع قول الله جل ثناؤه: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً}؟!
ولذا كانوا يأمرون بأن يؤخذ القرآن كما نزل متدرجاً، ويحذرون من ضده أشد التحذير لأمور، منها:
1) لأن ذلك لا يستطاع أبداً لعظم القرآن وثقله كما سبق
2) ولأن أخذه كما نزل يثبت الفؤاد كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان:32].
3) ولأن أخذه متدرجاً يوطّن النفس على قبول ما يأتي بعد الآيات الأول من الشرائع والحلال والحرام، كما أخرج البخاري في صحيحه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت:
"إنما نزل أول ما نزل سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس للإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء "لا تشربوا الخمر" لقالوا: لا ندع شرب الخمر، ولو نزل أول شيء "لا تزنوا" لقالوا: لا ندع الزنا، وإنه أنزلت {والساعة أدهى وأمرّ} [القمر:46] بمكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإني جارية ألعب، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده".
¥