تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وكذلك ظن قوم أن انتفاع الميت بالعبادات البدنية من الحي ينافي قوله: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، فليس الأمر كذلك؛ فإن انتفاع الميت بالعبادات البدنية من الحي بالنسبة إلى الآية كانتفاعه بالعبادات المالية، ومن ادعي أن الآية تخالف أحدهما دون الآخر فقوله ظاهر الفساد، بل ذلك بالنسبة إلى الآية كانتفاعه بالدعاء والاستغفار والشفاعة، وقد بينا في غير هذا الموضع نحوًا من ثلاثين دليلًا شرعيا يبين انتفاع الإنسان بسعي غيره؛ إذ الآية إنما نفت استحقاق السعي وملكه، وليس كل مالًا يستحقه الإنسان ولا يملكه لا يجوز أن يحسن إليه مالكه ومستحقه بما ينتفع به منه، فهذا نوع وهذا نوع، وكذلك ليس كل ما لا يملكه الإنسان لا يحصل له من جهته منفعة؛ فإن هذا كذب في الأمور الدينية والدنيوية.

وهذه النصوص النافية للظلم تثبت العدل في الجزاء، وأنه لا يبخس عامل عمله، وكذلك قوله فيمن عاقبهم: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ} [هود: 101]، وقوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76]، بين أن عقاب المجرمين عدلًا لذنوبهم، لا لأنا ظلمناهم فعاقبناهم بغير ذنب. والحديث الذي في السنن: (لو عذب الله أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرًا من أعمالهم) يبين أن العذاب لو وقع؛ لكان لاستحقاقهم ذلك، لا لكونه بغير ذنب، وهذا يبين أن من الظلم المنفي عقوبة من لم يذنب.

وكذلك قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عليكم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ} [غافر: 30: 31]، يبين أن هذا العقاب لم يكن ظلمًا؛ لاستحقاقهم ذلك، وأن الله لا يريد الظلم، والأمر الذي لا يمكن القدرة عليه لا يصلح أن يمدح الممدوح بعدم إرادته، وإنما يكون المدح بترك الأفعال إذا كان الممدوح قادرًا عليها، فعلم أن الله قادر على مانزه نفسه عنه من الظلم وأنه لا يفعله، وبذلك يصح قوله: (إني حرمت الظلم على نفسي)، وأن التحريم هو المنع، وهذا لا يجوز أن يكون فيما هو ممتنع لذاته، فلا يصلح أن يقال: حرمت على نفسي أو منعت نفسي من خلق مثلي، أو جعل المخلوقات خالقة، ونحو ذلك من المحالات. وأكثر ما يقال في تأويل ذلك ما يكون معناه: إني أخبرت عن نفسي بأن ما لا يكون مقدورًا لا يكون مني. وهذا المعنى مما يتيقن المؤمن أنه ليس مراد الرب، وأنه يجب تنزيه الله ورسوله عن إرادة مثل هذا المعنى الذي لا يليق الخطاب بمثله، إذ هو مع كونه شبه التكرير وإيضاح الواضح ليس فيه مدح ولا ثناء، ولا ما يستفيده المستمع، فعلم أن الذي حرمه على نفسه هو أمر مقدور عليه لكنه لا يفعله؛ لأنه حرمه على نفسه، وهو ـ سبحانه ـ منزه عن فعله مقدس عنه.

يبين ذلك أن ما قاله الناس في حدود الظلم يتناول هذا دون ذلك، كقول بعضهم: الظلم وضع الشيء في غير موضعه، كقولهم: من أشبه أباه فما ظلم. أي: فما وضع الشبه غير موضعه، ومعلوم أن الله ـ سبحانه ـ حكم عدل لا يضع الأشياء إلا مواضعها، ووضعها غير مواضعها ليس ممتنعًا لذاته، بل هو ممكن لكنه لا يفعله؛ لأنه لا يريده، بل يكرهه ويبغضه، إذ قد حرمه على نفسه.

وكذلك من قال: الظلم إضرار غير مستحق. فإن الله لا يعاقب أحدًا بغير حق. وكذلك من قال: هو نقص الحق وذكر أن أصله النقص كقوله: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33].

وأما من قال: هو التصرف في ملك الغير فهذا ليس بمطرد ولا منعكس، فقد يتصرف الإنسان في ملك غيره بحق ولا يكون ظالمًا، وقد يتصرف في ملكه بغير حق فيكون ظالمًا، وظلم العبد نفسه كثير في القرآن. وكذلك من قال: فعل المأمور خلاف ما أمر به، ونحو ذلك إن سلم صحة مثل هذا الكلام فالله ـ سبحانه ـ قد كتب على نفسه الرحمة وحرم على نفسه الظلم، فهو لا يفعل خلاف ما كتب ولا يفعل ما حرم.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير