تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ثم صفات المخلوقات ليست صفات له؛ كالألوان والطعوم والروائح لعدم قيام ذلك به. وكذلك حركات المخلوقات ليست حركات له ولا أفعالا له بهذا الاعتبار؛ لكونها مفعولات هو خلقها. وبهذا الفرق تزول شبه كثيرة. والأمر الذي كتبه على نفسه يستحق عليه الحمد والثناء وهو مقدس عن ترك هذا الذي لو ترك لكان تركه نقصًا، وكذلك الأمر الذي حرمه على نفسه يستحق الحمد والثناء على تركه، وهو مقدس عن فعله الذي لو كان لأوجب نقصًا.

وهذا كله بين - وللّه الحمد - عند الذين أوتوا العلم والإيمان، وهو أيضًا مستقر في قلوب عموم المؤمنين، ولكن القدرية شبهوا على الناس بشبههم، فقابلهم من قابلهم بنوع من الباطل، كالكلام الذي كان السلف والأئمة يذمونه؛ وذلك أن المعتزلة قالوا: قد حصل الاتفاق على أن اللّه ليس بظالم، كما دل عليه الكتاب والسنة، والظالم من فعل الظلم، كما أن العادل من فعل العدل، هذا هو المعروف عند الناس من مسمي هذا الاسم سمعًا وعقلا، قالوا: ولو كان الله خالقًا لأفعال العباد التي هي الظلم لكان ظالمًا. فعارضهم هؤلاء بأن قالوا: ليس الظالم من فعل الظلم، بل الظالم من قام به الظلم. وقال بعضهم: الظالم من اكتسب الظلم وكان منهيًا عنه. وقال بعضهم: الظالم من فعل محرما عليه أو ما نهي عنه. ومنهم من قال: من فعل الظلم لنفسه. وهؤلاء يعنون: أن يكون الناهي له والمحرم عليه غيره الذي يجب عليه طاعته؛ ولهذا كان تصور الظلم منه ممتنعًا عندهم لذاته؛ كامتناع أن يكون فوقه آمر له وناه. ويمتنع عند الطائفتين أن يعود إلى الرب من أفعاله حكم لنفسه.

وهؤلاء لم يمكنهم أن ينازعوا أولئك في أن العادل من فعل العدل بل سلموا ذلك لهم، وإن نازعهم بعض الناس منازعة عنادية.

والذي يكشف تلبيس المعتزلة أن يقال لهم: الظالم والعادل الذي يعرفه الناس، وإن كان فاعلا للظلم والعدل فذلك يأثم به أيضًا، ولا يعرف الناس من يسمي ظالمًا ولم يقم به الفعل الذي به صار ظالمًا، بل لا يعرفون ظالمًا إلا من قام به الفعل الذي فعله وبه صار ظالمًا، وإن كان فعله متعلقًا بغيره وله مفعول منفصل عنه. لكن لا يعرفون الظالم إلا بأن يكون قد قام به ذلك، فكونكم أخذتم في حد الظالم أنه من فعل الظلم وعنيتم بذلك من فعله في غيره - فهذا تلبيس وإفساد للشرع والعقل واللغة، كما فعلتم في مسمي المتكلم حيث قلتم: هو من فعل الكلام ولو في غيره. وجعلتم من أحدث كلاما منفصلا عنه قائمًا بغيره متكلما وإن لم يقم به هو كلام أصلا. وهذا من أعظم البهتان والقرمطة والسَّفْسَطة.

ولهذا ألزمهم السلف أن يكون ما أحدثه من الكلام في الجمادات، وكذلك أيضًا ما خلقه في الحيوانات، ولا يفرق حينئذ بين نطق وأنطق وإنما قالت الجلود: {أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 12]، ولم تقل: نطق اللّه بذلك؛ ولهذا قال من قال من السلف كسليمان بن داود الهاشمي وغيره ما معناه: إنه على هذا يكون الكلام الذي خلق في فرعون حتى قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، كالكلام الذي خلق في الشجرة حتى قالت: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} [طه: 14]، فإما أن يكون فرعون محقًا، أو تكون الشجرة كفرعون. وإلى هذا المعنى يَنْحُو الاتحادية من الجهمية وينشدون:

وكل كلام في الوجود كلامه ** سواء علىنا نثره ونظامه

وهذا يستوعب أنواع الكفر؛ ولهذا كان من الأمر البين للخاصة والعامة أن مَنْ قال: المتكلم لا يقوم به كلام أصلا - فإن حقيقة قوله أنه ليس بمتكلم؛ إذ ليس المتكلم إلا هذا؛ ولهذا كان أولوهم يقولون: ليس بمتكلم. ثم قالوا: هو متكلم بطريق المجاز، وذلك لما استقر في الفطر أن المتكلم لابد أن يقوم به كلام وإن كان مع ذلك فاعلا له، كما يقوم بالإنسان كلامه وهو كاسب له. أما أن يجعل مجرد أحداث الكلام في غيره كلاما له - فهذا هو الباطل.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير