تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وإذا كان التوحيد أصل صلاح الناس، والإشراك أصل فسادهم، والقسط مقرون بالتوحيد؛ إذ التوحيد أصل العدل، وإرادة العلو مقرونة بالفساد؛ إذ هو أصل الظلم -فهذا مع هذا وهذا مع هذا كالملزوزين في قرن، فالتوحيد وما يتبعه من الحسنات هو صلاح وعدل؛ ولهذا كان الرجل الصالح هو القائم بالواجبات، وهو البر، وهو العدل. والذنوب التي فيها تفريط أو عدوان في حقوق ـ الله تعالى ـ وحقوق عباده هي فساد وظلم؛ ولهذا سمي قطاع الطريق مفسدين، وكانت عقوبتهم حقًا لله -تعالى- لاجتماع الوصفين، والذي يريد العلو على غيره من أبناء جنسه هو ظالم له باغ؛ إذ ليس كونك عاليا عليه بأولى من كونه عاليا عليك، وكلاكما من جنس واحد. فالقسط والعدل أن يكونوا إخوة كما وصف الله المؤمنين بذلك.

والتوحيد، وإن كان أصل الصلاح، فهو أعظم العدل؛ ولهذا قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إلى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبابا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]؛ ولهذا كان تخصيصهبالذكر في مثل قوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29]، لا يمنع أن يكون داخلا في القسط، كما أن ذكر العمل الصالح بعد الإيمان لا يمنع أن يكون داخلا في الإيمان، كما في قوله: {وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98]، و {مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ} [الأحزاب: 7]، هذا إذا قيل: إن اسم الإيمان يتناوله. سواء قيل: إنه في مثل هذا يكون داخلًا في الأول، فيكون مذكورًا مرتين، أو قيل: بل عطفه عليه يقتضي أنه ليس داخلًا فيه هنا وإن كان داخلًا فيه منفردًا، كما قيل مثل ذلك في لفظ الفقراء والمساكين، وأمثال ذلك مما تتنوع دلالته بالإفراد والاقتران. لكن المقصود أن كل خير فهو داخل في القسط والعدل، وكل شر فهو داخل في الظلم.

ولهذا كان العدل أمرًا واجبًا في كل شيء وعلى كل أحد، والظلم محرمًا في كل شيء ولكل أحد، فلا يحل ظلم أحد أصلًا، سواء كان مسلمًا أو كافرًا أو كان ظالمًا، بل الظلم إنما يباح، أو يجب فيه العدل عليه أيضًا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ} [المائدة: 8] أي: لا يحملنكم شنآن، أي: بغض قوم ـ وهم الكفار ـ على عدم العدل {قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَي} [المائدة: 8]، وقال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَي عليكُمْ فَاعْتَدُواْ عليه بِمِثْلِ مَا اعْتَدَي عليكُمْ} [البقرة: 194]، وقال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} [النحل: 126]، وقال تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشوري: 40].

وقد دل على هذا قوله في الحديث: (يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا) فإن هذا خطاب لجميع العباد ألا يظلم أحد أَحَدًا، وأمر العالم في الشريعة مَبنْي على هذا، وهو العدل في الدماء والأموال والأبضاع والأنساب، والأعراض؛ ولهذا جاءت السنة بالقصاص في ذلك، ومقابلة العَادي بمثل فعله. لكن المماثلة قد يكون علمها أو عملها متعذرًا أو متعسرًا؛ ولهذا يكون الواجب ما يكون أقرب إليها بحسب الإمكان، ويقال: هذا أمثل، وهذا أشبه. وهذه الطريقة المثلي لما كان أمثل بما هو العدل والحق في نفس الأمر إذ ذاك معجوز عنه؛ ولهذا قال تعالى: {وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [الأنعام: 152]،فذكر أنه لم يكلف نفسًا إلا وسعها حين أمر بِتَوْفِية الكيل والميزان بالقسط؛ لأن الكيل لابد له أن يفضل أحد المكيلين على الآخر ولو بحبة أو حبات، وكذلك التفاضل في الميزان قد يحصل بشيء يسير لا يمكن الاحتراز منه، فقال تعالى: {لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [الأنعام: 152].

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير