تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وفتح الأمر بالهداية فإنها، وإن كانت الهداية النافعة، هي المتعلقة بالدين، فكل أعمال الناس تابعة لهدي الله إياهم، كما قال سبحانه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعلى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّي وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَي} [الأعلى: 1: 3]، وقال موسي: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَي كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَي} [طه: 50]، وقال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]، وقال: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3].

ولهذا قيل: الهدي أربعة أقسام:

أحدها: الهداية إلى مصالح الدنيا؛ فهذا مشترك بين الحيوان الناطق والأعجم، وبين المؤمن والكافر.

والثاني: الهدي بمعني دعاء الخلق إلى ما ينفعهم وأمرهم بذلك، وهو نصب الأدلة وإرسال الرسل وإنزال الكتب، فهذا أيضًا يشترك فيه جميع المكلفين، سواء آمنوا أو كفروا، كما قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَي على الْهُدَي} [فصلت: 17]، وقال تعالى: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7]، وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشوري: 52]، فهذا مع قوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 65]، يبين أن الهدي الذي أثبته هو البيان والدعاء، والأمر والنهي، والتعليم وما يتبع ذلك، ليس هو الهدي الذي نفاه، وهو القسم الثالث الذي لا يقدر عليه إلا الله.

والقسم الثالث: الهدي الذي هو جعل الهدي في القلوب. وهو الذي يسميه بعضهم بالإلهام والإرشاد، وبعضهم يقول: هو خلق القدرة على الإيمان؛ كالتوفيق عندهم، ونحو ذلك، وهو بناء على أن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل. فمن قال ذلك من أهل الإثبات جعل التوفيق والهدي، ونحو ذلك خلق القدرة على الطاعة.

وأما من قال: إنهما استطاعتان:

إحداهما: قبل الفعل، وهي الاستطاعة المشروطة في التكليف، كما قال تعالى: {وَلِلّهِ على النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إليه سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: (صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب) وهذه الاستطاعة يقترن بها الفعل تارة، والترك أخري، وهي الاستطاعة التي لم تعرف القدرية غيرها، كما أن أولئك المخالفين لهم من أهل الإثبات لم يعرفوا إلا المقارنة. وأما الذي عليه المحققون من أئمة الفقه والحديث والكلام وغيرهم فإثبات النوعين جميعًا، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع؛ فإن الأدلة الشرعية والعقلية تثبت النوعين جميعًا.

والثانية: المقارنة للفعل، وهي الموجبة له، وهي المنفية عمن لم يفعل في مثل قوله: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} [هود: 20]، وفي قوله: {لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف: 101]. وهذا الهدي الذي يكثر ذكره في القرآن في مثل قوله: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، وقوله: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125]، وفي قوله: {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} [الكهف: 17]، وأمثال ذلك.

وهذا هو الذي تنكر القدرية أن يكون الله هو الفاعل له، ويزعمون أن العبد هو الذي يهدي نفسه. وهذا الحديث وأمثاله حجة عليهم، حيث قال: (يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم)، فأمر العباد بأن يسألوه الهداية، كما أمرهم بذلك في أمالكتاب في قوله: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} [الفاتحة: 6]،وعند القدرية أن الله لا يقدر من الهدي إلا على ما فعله من إرسال الرسل، ونصب الأدلة، وإزاحة العلة، ولا مزية عندهم للمؤمن على الكافر في هداية الله -تعالى، ولا نعمة له على المؤمن أعظم من نعمته على الكافر في باب الهدي.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير