تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وأما حق المظلوم فلا يسقط بمجرد التوبة، وهذا حق. ولا فرق في ذلك بين القاتل وسائر الظالمين. فمن تاب من ظلم لم يسقط بتوبته حق المظلوم، لكن من تمام توبته أن يعوضه بمثل مظلمته، وإن لم يعوضه في الدنيا فلابد له من العوض في الآخرة، فينبغي للظالم التائب أن يستكثر من الحسنات، حتى إذا استوفي المظلومون حقوقهم لم يبق مفلسًا. ومع هذا فإذا شاء الله أن يعوض المظلوم من عنده فلا راد لفضله، كما إذا شاء أن يغفر ما دون الشرك لمن يشاء؛ ولهذا في حديث القصاص الذي ركب فيه جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أنيس شهرًا حتى شَافَهَهُ به، وقد رواه الإمام أحمد، وغيره، واستشهد به البخاري في صحيحه، وهو من جنس حديث الترمذي صِحَاحه أو حسانه، قال فيه: (إذا كان يوم القيامة فإن الله يجمع الخلائق في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر. ثم يناديهم بصوت يسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قَرُبَ: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، ولا لأحد من أهل النار قِبَلَه مظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار ولا لأحد من أهل الجنة حتى أقصه منه). فبين في الحديث العدل والقصاص بين أهل الجنة وأهل النار.

وفي صحيح مسلم، من حديث أبي سعيد: (أن أهل الجنة إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة)، وقد قال ـ سبحانه ـ لما قال: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} [الحجرات: 12]ـ والاغتياب من ظلم الأعراض ـ قال: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات: 12]. فقد نبههم على التوبة من الاغتياب وهو من الظلم.

وفي الحديث الصحيح: (من كان عنده لأخيه مظلمة في دم أو مال أو عرض فليأته فليستحل منه قبل أن يأتي يوم ليس فيه درهمولا دينار إلا الحسنات والسيئات. فإن كان له حسنات وإلا أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه، ثم يلقي في النار) أو كما قال. وهذا فيما علمه المظلوم من العِوَض، فأما إذا اغتابه أو قذفه ولم يعلم بذلك فقد قيل: من شرط توبته إعلامه، وقيل: لا يشترط ذلك، وهذا قول الأكثرين، وهما روايتان عن أحمد. لكن قوله مثل هذا أن يفعل مع المظلوم حسنات، كالدعاء له، والاستغفار، وعمل صالح يهدي إليه، يقوم مقام اغتيابه وقذفه. قال الحسن البصري: كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته.

وأما الذنوب التي يطلق الفقهاء فيها نفي قبول التوبة، مثل قول أكثرهم: لا تقبل توبة الزنديق وهو المنافق، وقولهم: إذا تاب المحارب قبل القدرة عليه تسقط عنه حدود الله، وكذلك قول كثير منهم أو أكثرهم في سائر الجرائم، كما هو أحد قولي الشافعي وأصح الروايتين عن أحمد، وقولهم في هؤلاء: إذا تابوا بعد الرفع إلى الإمام لم تقبل توبتهم ـ فهذا إنما يريدون به رفع العقوبة المشروعة عنهم، أي: لاتقبل توبتهم بحيث يخلي بلا عقوبة، بل يعاقب: إما لأن توبته غير معلومة الصحة، بل يظن به الكذب فيها، وإما لأن رفع العقوبة بذلك يفضي إلى انتهاك المحارم وسد باب العقوبة على الجرائم، ولا يريدون بذلك أن من تاب من هؤلاء توبة صحيحة فإن الله لا يقبل توبته في الباطن؛ إذ ليس هذا قول أحد من أئمة الفقهاء، بل هذه التوبة لا تمنع إلا إذا عاين أمر الآخرة، كما قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عليهمْ وَكَانَ اللّهُ علىمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} الآية [النساء: 17، 18].

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير