تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فكيف بالغني الصمد، الذي يمتنع عليه أن يستحق من غيره نفعًا أو ضرًا؟ وهذا الكلام كما بين أن ما يفعله بهم من جلب المنافع ودفع المضار فإنهم لن يبلغوا أن يفعلوا به مثل ذلك، فكذلك يتضمن أن ما يأمرهم به من الطاعات وما ينهاهم عنه من السيئات فإنه لا يتضمن استجلاب نفعهم، كأمر السيد لعبده، أو الوالد لولده، والأمير لرعيته، ونحو ذلك. ولا دفع مضرتهم، كنهي هؤلاء أو غيرهم لبعض الناس عن مضرتهم.

فإن المخلوقين يبلغ بعضهم نفع بعض ومضرة بعض، وكانوا في أمرهم ونهيهم قد يكونون كذلك، والخالق ـ سبحانه ـ مقدس عن ذلك، فبين تنزيهه عن لحوق نفعهم وضرهم في إحسانه إليهم بما يكون منأفعاله بهم وأوامره لهم، قال قتادة: إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليهم، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلًا به عليهم، ولكن أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم.

فصل

ولهذا ذكر هذين الأصلين بعد هذا، فذكر أن برهم وفجورهم ـ الذي هو طاعتهم ومعصيتهم ـ لا يزيد في ملكه ولا ينقص، وأن إعطاءه إياهم غاية ما يسألونه نسبته إلى ما عنده أدني نسبة، وهذا بخلاف الملوك وغيرهم ممن يزداد ملكه بطاعة الرعية، وينقص ملكه بالمعصية. وإذا أعطي الناس ما يسألونه أنفد ما عنده ولم يغنهم، وهم في ذلك يبلغون مضرته ومنفعته، وهو يفعل ما يفعله من إحسان وعفو وأمر ونهي لرجاء المنفعة وخوف المضرة. فقال: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقي قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا)، إذ ملكه هو قدرته على التصرف. فلا تزداد بطاعتهم ولا تنقص بمعصيتهم، كما تزداد قدرة الملوك بكثرة المطيعين لهم، وتنقص بقلة المطيعين لهم، فإن ملكه متعلقبنفسه، وهو خالق كل شيء وربه ومليكه، وهو الذي يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء.

والملك قد يراد به القدرة على التصرف والتدبير، ويراد به نفس التدبير والتصرف، ويراد به المملوك نفسه الذي هو محل التدبير، ويراد به ذلك كله. وبكلٍّ حال، فليس بر الأبرار وفجور الفجار موجبًا لزيادة شيء من ذلك ولا نقصه، بل هو بمشيئته وقدرته يخلق ما يشاء، فلو شاء أن يخلق مع فجور الفجار ما شاء لم يمنعه من ذلك مانع، كما يمنع الملوك فجور رعاياهم التي تعارض أوامرهم عما يختارونه من ذلك، ولو شاء ألا يخلق مع بر الأبرار شيئًا مما خلقه لم يكن برهم محوجًا له إلى ذلك، ولا معينًا له كما يحتاج الملوك ويستعينون بكثرة الرعايا المطيعين.

فصل

ثم ذكر حالهم في النوعين سؤال بره وطاعة أمره اللذين ذكرهما في الحديث، حيث ذكر الاستهداء والاستطعام والاستكساء، وذكر الغفران والبر والفجور، فقال: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخْيَط إذا أدخل البحر)،والخياط والمخيط: ما يخاط به، إذ الفعال والمفعل والمفعال من صيغ الآلات التي يفعل بها، كالمسعر، والمخلاب، والمنشار. فبين أن جميع الخلائق إذا سألوا ـ وهم في مكان واحد وزمان واحد ـ فأعطي كل إنسان منهم مسألته، لم ينقصه ذلك مما عنده إلا كما ينقص الخياط ـ وهي الإبرة ـ إذا غمس في البحر.

وقوله: (لم ينقص مما عندي) فيه قولان:

أحدهما: أنه يدل على أن عنده أمورًا موجودة يعطيهم منها ما سألوه إياه، وعلى هذا فيقال: لفظ النقص على حاله؛ لأن الإعطاء من الكثير، وإن كان قليلا، فلابد أن ينقصه شيئًا ما. ومن رواه: (لم ينقص من ملكي) يحمل على ما عنده، كما في هذا اللفظ؛ فإن قوله: (مما عندي) فيه تخصيص ليس هو في قوله: (من ملكي). وقد يقال: المعطي؛ إما أن يكون أعيانًا قائمة بنفسها، أو صفات قائمة بغيرها. فأما الأعيان فقد تنقل من محل إلى محل، فيظهر النقص في المحل الأول. وأما الصفات فلا تنقل من محلها، وإن وجد نظيرها في محل آخر، كما يوجد نظير علم المعلم في قلب المتعلم من غير زوال علم المعلم، وكما يتكلم المتكلم بكلام المتكلم قبله من غير انتقال كلام المتكلم الأول إلى الثاني. وعلى هذا فالصفات لا تنقص مما عنده شيئًا، وهي من المسؤول كالهدي.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير